فصل: تفسير الآية رقم (6)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏104- 107‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏104‏)‏ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏105‏)‏ وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏106‏)‏ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏107‏)‏‏}‏

خطاب لأهل مكة يقول‏:‏ إن كنتم لا تعرفون ما أنا عليه فأنا أبينه لكم، فبدأ أولاً بالانتفاء من عبادة ما يعبدون من الأصنام تسفيهاً لآرائهم، وأثبت ثانياً من الذي يعبده وهو الله الذي يتوفاكم‏.‏ وفي ذكر هذا الوصف الوسط الدال على التوفي‏.‏ دلالة على البدء وهو الخلق، وعلى الإعادة، فكأنه أشار إلى أنه يعبد الله الذي خلقكم ويتوفاكم ويعيدكم، وكثيراً ما صرح في القرآن بهذه الأطوار الثلاثة، وكان التصريح بهذا الوصف لما فيه من التذكير بالموت وإرهاب النفوس به، وصيرورتهم إلى الله بعده، فهو الجدير بأنْ يخاف ويتقي ويعبد لا الحجارة التي تعبدونها‏.‏ وأمرت أن أكون من المؤمنين لما ذكر أنه يعبد الله، وكانت العبادة أغلب ما عليها عمل الجوارح، أخبر أنه أمر بأن يكون من المصدقين بالله الموحدين له، المفرد له بالعبادة، وانتقل من عمل الجوارح إلى نور المعرفة، وطابق الباطن الظاهر‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ يعني أن الله تعالى أمرني بما ركب فيّ من العقل، وبما أوحي إليّ في كتابه‏.‏ وقيل معناه إن كنتم في شك من ديني ومما أنا عليه، أأثبت أم أتركه وأوافقكم، فلا تحدثوا أنفسكم بالمحال، ولا تشكوا في أمري، واقطعوا عني أطماعكم، واعلموا أني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله، ولا أختار الضلالة على الهدى كقوله‏:‏ ‏{‏قل يا أيها الكافرون لا أعبد ماتعبدون‏}‏ وأمرت أن أكون أصله‏:‏ بأن أكون، فحذف الجار وهذا الحذف يحتمل أن يكون من الحذف المطرد الذي هو حذف الحروف الجارة، مع أنّ وأنّ يكون من الحذف غير المطرد وهو قوله‏:‏ أمرتك الخير ‏{‏فاصدع بما تؤمر‏}‏ انتهى يعني بالحذف غير المطرد وهو قوله‏:‏ أمرتك الخير، إنه لا يحذف حرف الجر من المفعول الثاني إلا في أفعال محصورة سماعاً لا قياساً وهي‏:‏ اختار، واستغفر، وأمر، وسمى، ولبى، ودعا بمعنى سمى، وزوّج، وصدّق، خلافاً لمن قاس الحذف بحرف الجر من المفعول الثاني، حيث يعني الحرف ووموضع الحذف نحو‏:‏ بريت القلم بالسكين، فيجيز السكين بالنصب‏.‏ وجواب إن كنتم في شك قوله‏:‏ فلا أعبد، والتقدير‏:‏ فأنا لا أعبد، لأنّ الفعل المنفي بلا إذا وقع جواباً انجزم، فإذا دخلت عليه الفاء علم أنه على إضمار المبتدأ‏.‏ وكذلك لو ارتفع دون لا لقوله‏.‏

ومن عاد فينتقم الله منه أي‏:‏ فهو ينتقم الله منه‏.‏ وتضمن قوله‏:‏ فلا أعبد، معنى فأنا مخالفكم‏.‏ وأن أقم يحتمل أنْ تكون معمولة لقوله‏:‏ وأمرت، مراعى فيها المعنى‏.‏ لأن معنى قوله أنْ أكون كن من المؤمنين، فتكون أن مصدرية صلتها الأمر‏.‏ وقد أجاز ذلك النحويون، فلم يلتزموا في صلتها ما التزم في صلات الأسماء الموصولة من كونها لا تكون إلا خبرية بشروطها المذكورة في النحو‏.‏

ويحتمل أن تكون على إضمار فعل أي‏:‏ وأوحي إليّ أن أقم، فاحتمل أن تكون مصدرية، واحتمل أن تكون حرف تفسير، لأن الجملة المقدرة فيها معنى القول وإضمار الفعل أولى، ليزول قلق العطف لوجود الكاف، إذ لو كان وأنّ أقم عطفاً على أن أكون، لكان التركيب وجهي بياء المتكلم ومراعاة المعنى فيه ضعف، وإضمار الفعل أكثر من مراعاة العطف على المعنى‏.‏ والوجه هنا المنحى، والمقصد أي‏:‏ استقم للدين ولا تحد عنه، وكنى بذلك عن صرف العقل بالكلية إلى طلب الدين‏.‏ وحنيفاً‏:‏ حال من الضمير في أقم، أو من المفعول‏.‏ وأجاز الزمخشري أن تكون حالاً من الدين، ولا تدع يحتمل أن يكون استئناف نهي، ويحتمل أن يكون معطوفاً على أقم، فيكون في حيز أن على قسميها من كونها مصدرية، وكونها حرف تفسير‏.‏ وإذا كان دعاء الأصنام منهياً عنه فأحرى أن ينهي عن عبادتها، فإن فعلت كنى بالفعل عن الدعاء إيجازاً أي‏:‏ فإن دعوت ما لا ينفعك ولا يضرك‏.‏ وجواب الشرط فإنك وخبرها، وتوسطت إذاً بين اسم إنّ والخبر، ورتبتها بعد الخبر، لكنْ روعي في ذلك الفاصلة‏.‏ قال الحوفي‏:‏ الفاء جواب الشرط، وإذا متوسطة لا عمل لها يراد بها في هذا إذا كان ذلك هذا تفسير، المعنى لا يجيء على معنى الجواب انتهى‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ إذا جواب الشرط، وجواب لجواب مقدر كان سائلاً سأل عن تبعة عبادة الأوثان، وجعل من الظالمين لأنه لا ظلم أعظم من الشرك، ‏{‏إنّ الشرك لظلم عظيم‏}‏ انتهى‏.‏ وكلامه في إذا يحتاج إلى تأمل، وقد تقدم لنا الكلام فيها مشبعاً في سورة البقرة‏.‏ ولما وقع النهي عن دعاء الأصنام وهي لا تضر ولا تنفع، ذكر أن الحول والقوة والنفع والضر ليس ذلك إلا لله، وأنه تعالى هو المنفرد بذلك، وأتى في الضر بلفظ المس، وفي الخير بلفظ الإرادة، وطابق بين الضر والخير مطابقة معنوية لا لفظية، لأنّ مقابل الضر النفع ومقابل الخير الشر، فجاءت لفظة الضر ألطف وأخص من لفظة الشر، وجاءت لفظة الخير أتم من لفظة النفع، ولفظة المس أوجز من لفظ الإرادة وأنص على الإصابة وأنسب لقوله‏:‏ فلا كاشف له إلا هو، ولفظ الإرادة أدل على الحصول في وقت الخطاب وفي غيره وأنسب للفظ الخير، وإن كان المس والإرادة معناهما الإصابة‏.‏ وجاء جواب‏:‏ وإن يمسسك بنفي عام وإيجاب، وجاء جواب‏:‏ وإن يردك بنفي عام، لأنّ ما أراده لا يرده رادّ لا هو ولا غيره، لأن إرادته قديمة لا تتغير، فلذلك لم يجيء التركيب فلا رادّ له إلا هو‏.‏ والمس من حيث هو فعل صفة فعل يوقعه ويرفعه بخلاف الإرادة، فإنها صفة ذات، وجاء فلا رادّ لفضله سمى الخير فضلاً إشعاراً بأنّ الخيور من الله تعالى، هي صادرة على سبيل الفضل والإحسان والتفضل‏.‏

ثم اتسع في الإخبار عن الفضل والخير فقال‏:‏ يصيب به من يشاء من عباده، ثم أخبر بالصفتين الدالتين على عدم المؤاخذة وهما‏:‏ الغفور الذي يستر ويصفح عن الذنوب، والرحيم الذي رحمته سبقت غضبه‏.‏ ولما تقدم قوله‏:‏ ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك، فأخر الضر، ناسب أن تكون البداءة بجملة الشرط المتعلقة بالضر‏.‏ وأيضاً فإنه لما كان الكفار يتوقع منهم الضر للمؤمنين والنفع لا يرجى منهم، كان تقديم جملة الضر آكد في الإخبار فبدئ بها‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ لم ذكر المس في أحدهما، والإرادة في الثاني‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ كأنه أراد أن يذكر الأمرين جميعاً‏:‏ الإرادة، والإصابة في كل واحد من الضر والخير، وأنه لا رادّ لما يريد منهما، ولا مزيل لما يصيب به منهما، فأوجز الكلام بأنّ ذكر المس وهو الإصابة في أحدهما، والإرادة في الإنجاز، ليدل بما ذكر على ما ترك على أنه قد كرر الإصابة في الخير في قوله‏:‏ يصيب به من يشاء من عباده، والمراد بالمشيئة المصلحة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏108- 109‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏108‏)‏ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏109‏)‏‏}‏

الحق‏:‏ القرآن، أو الرسول، أو دين الإسلام، ثلاثة أقوال والمعنى‏:‏ فإنما ثواب هدايته حاصل له، ووبال ضلاله عليه، والهداية والضلال واقعان بإرادة الله تعالى من العبد، هذا مذهب أهل السنة‏.‏ وأن من حكم له في الأزل بالاهتداء فسيقع ذلك، وأنَّ من حكم له بالضلال فكذلك ولا حيلة في ذلك‏.‏ وقال القاضي‏:‏ إنه تعالى بيّن أنه أكمل الشريعة وأزاح العلة وقطع المعذرة، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل، فلا يجب عليّ من السعي في إيصالكم إلى الثواب العظيم، وفي تخليصكم من العذاب الأليم، أزيد مما فعلت‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ لم يبق لكم عذر ولا على الله تعالى حجة، فمن اختار الهدى واتباع الحق فما نفع باختياره إلا نفسه، ومن آثر الضلال فما ضر إلا نفسه‏.‏ واللام وعلى على معنى النفع والضر، وكل إليهم الأمر بعد إزاحة العلل وإبانة الحق‏.‏ وفيه حث على إتيان الهدى واطراح الضلال مع ذلك، وما أنا عليكم بوكيل بحفيظ موكول إليّ أمركم وحملكم على ما أريد، إنما أنا بشير ونذير انتهى‏.‏ وكلامه تذييل كلام القاضي، وهو جار على مذهب المعتزلة‏.‏ وأمره تعالى نبيه باتباع ما يوحى إليه أمر بالديمومة وبالصبر على ما ينالك في الله من أذى الكفار وإعراضهم، وغيا الأمر بالصبر بقوله‏:‏ حتى يحكم الله وهو وعد منه تعالى بإعلاء كلمته ونصره على أعدائه كما وقع‏.‏ وذهب ابن عباس وجماعة إلى أنّ قوله‏:‏ وما أنا عليكم بوكيل واصبر، منسوخ بآية السيف‏.‏ وذهب جماعة إلى أنه محكم، وحملوا وما أنا عليكم بوكيل على أنه ليس بحفيظ على أعمالهم ليجازيهم عليها، بل ذلك لله‏.‏ وقوله‏:‏ واصبر على، الصبر على طاعة الله وحمل أثقال النبوة وأداء الرسالة، وعلى هذا لا تعارض بين هاتين الآيتين وبين آية السيف، وإلى هذا مال المحققون‏.‏ وروي أنه لما نزلت‏:‏ واصبر، جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار فقال‏:‏ «إنكم ستجدون بعدي اثرة فاصبروا حتى تلقوني» قال الزمخشري‏:‏ يعني أنّي أمرت في هذه الآية بالصبر على ما سامني الكفرة، فصبرت واصبروا أنتم على ما يسومكم الأمراء الجورة‏.‏ قال أنس‏:‏ فلم نصبر، ثم ذكر حكاية جرت بين أبي قتادة ومعاوية رضي الله عنهما يوقف عليها من كتابه‏.‏

سورة هود

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ‏(‏1‏)‏ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ‏(‏2‏)‏ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ‏(‏3‏)‏ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قال ابن عباس، والحسن، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، وجابر بن زيد‏:‏ هذه السورة مكية كلها، وعن ابن عباس‏:‏ مكية كلها إلا قوله‏:‏ ‏{‏فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك‏}‏ الآية‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ مكية إلا قوله‏:‏ فلعلك تارك الآية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أولئك يؤمنون به‏}‏ نزلت في ابن سلام وأصحابه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن الحسنات يذهبن السيئات‏}‏ نزلت في نبهان التمار‏.‏

وكتاب خبر مبتدأ محذوف يدل عليه ظهوره بعد هذه الحروف المقطعة كقوله‏:‏ الم ذلك الكتاب، وأحكمت صفة له‏.‏ ومعنى الإحكام‏:‏ نظمه نظماً رضياً لا نقص فيه ولا خلل، كالبناء المحكم‏.‏ وهو الموثق في الترصيف، وعلى هذا فالهمزة في أحكمت ليست للنقل، ويجوز أن تكون للنقل من حكم بضم الكاف إذا صار حكيماً، فالمعنى‏:‏ جعلت حكيمة كقولك‏:‏ تلك آيات الكتاب الحكيم على أحد التأويلين في قوله‏:‏ ‏{‏الكتاب الحكيم‏}‏ وقيل‏:‏ من أحكمت الدابة إذا منعها من الجماح بوضع الحكمة عليها، فالمعنى‏:‏ منعت من النساء كما قال جرير‏:‏

أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم *** إني أخاف عليكم أن أغضبا

وعن قتادة‏:‏ أحكمت من الباطل‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ أحكمت أتقنت شبه ما يحكم من الأمور المتقنة الكاملة، وبهذه الصفة كان القرآن في الأول، ثم فصل بتقطيعه وتبيين أحكامه وأوامره عل محمد صلى الله عليه وسلم فثم على بابها، وهذه طريقة الإحكام والتفصيل‏.‏ إذ الإحكام صفة ذاتية، والتفصيل إنما هو بحسب من يفصل له، والكتاب أجمعه محكم مفصل، والإحكام الذي هو ضد النسخ، والتفصيل الذي هو خلاف الإجمال، إنما يقالان مع ما ذكرناه باشتراك‏.‏ وحكى الطبري عن بعض المتأولين‏:‏ أحكمت بالأمر والنهي، وفصلت بالثواب والعقاب‏.‏ وعن بعضهم‏:‏ أحكمت من الباطل، وفصلت بالحلال والحرام، ونحو هذا من التخصيص الذي هو صحيح المعنى، ولكن لا يقتضيه اللفظ‏.‏ وقيل‏:‏ فصلت معناه فسرت، وقال الزمخشري‏:‏ ثم فصلت كما تفصل القلائد بالدلائل من دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص، أو جعلت فصولاً سورة سورة وآية آية، أو فرقت في التنزيل ولم تنزل جملة واحدة، أو فصل بها ما يحتاج إليه العباد أي بيّن ولخص‏.‏ وقرأ عكرمة، والضحاك، والجحدري، وزيد بن علي، وابن كثير في رواية‏:‏ ثم فصلت بفتحتين، خفيفة على لزوم الفعل للآيات‏.‏ قال صاحب اللوامح‏:‏ يعني انفصلت وصدرت‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ فصلت بين المحق والمبطل من الناس، أو نزلت إلى الناس كما تقول‏:‏ فصل فلان بسفره‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ وقرئ أحكمت آياته ثم فصلت أي‏:‏ أحكمتها أنا، ثم فصلتها‏.‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ ما معنى‏؟‏ ثم ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ ليس معناها التراخي في الوقت ولكن في الحال، كما تقول‏:‏ هي محكمة أحسن الأحكام، ثم مفصلة أحسن التفصيل، وفلان كريم الأصل، ثم كريم الفعل انتهى‏.‏ يعني أنّ ثم جاءت لترتيب الإخبار لا لترتيب الوقوع في الزمان، واحتمل من لدن أن يكون في موضع الصفة‏.‏

ومن أجاز تعداد الأخبار إذا لم تكن في معنى خبر واحد أجاز أن يكون خبراً بعد خبر‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ أن يكون صلة أحكمت وفصلت أي‏:‏ من عنده إحكامها وتفصيلها‏.‏ وفيه طباق حسن، لأنّ المعنى أحكمها حكيم وفصلها أي‏:‏ بينها وشرحها خبير بكيفيات الأمور انتهى‏.‏ ولا يريد أن من لدن متعلق بالفعلين معاً من حيث صناعة الإعراب، بل يريد أن ذلك من باب الاعمال، فهي متعلقة بهما من حيث المعنى‏.‏ وأن لا تعبدوا يحتمل أن يكون أن حرف تفسير، لأنّ في تفصيل الآيات معنى القول وهذا أظهر، لأنه لا يحتاج إلى إضمار‏.‏ وقيل‏:‏ التقدير لأنْ لا تعبدوا أو بأنْ لا تعبدوا، فيكون مفعولاً من أجله، ووصلت أنْ بالنهي‏.‏ وقيل‏:‏ أنْ نصبت لا تعبدوا، فالفعل خبر منفي‏.‏ وقيل‏:‏ أنْ هي المخففة من الثقيلة، وجملة النهي في موضع الخبر، وفي هذه الأقوال العامل فصلت‏.‏ وأما من أعربه أنه بدل من لفظ آيات أو من موضعها، أو التقدير‏:‏ من النظر أنْ لا تعبدوا إلا الله، أو في الكتاب ألا تعبدوا، أو هي أنْ لا تعبدوا، أو ضمن أنْ لا تعبدوا، أو تفصله أنْ لا تعبدوا، فهو بمعزل عن علم الإعراب‏.‏ والظاهر عود الضمير في منه إلى الله أي‏:‏ إني لكم نذير من جهته وبشير، فيكون في موضع الصفة، فتعلق بمحذوف أي‏:‏ كائن من جهته‏.‏ أو تعلق بنذير أي‏:‏ أنذركم من عذابه إنْ كفرتم، وأبشركم بثوابه إن آمنتم‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على الكتابة أي‏:‏ نذير لكم من مخالفته، وبشير منه لمن آمن وعمل به‏.‏ وقدم النذير لأن التخويف هو الأهم‏.‏ وأنْ استغفروا معطوف على أنْ لا تعبدوا، نهي أو نفي أي‏:‏ لا يعبد إلا الله‏.‏ وأمر بالاستغفار من الذنوب، ثم بالتوبة، وهما معنيان متباينان، لأنّ الاستغفار طلب المغفرة وهي الستر، والمعنى‏:‏ أنه لا يبقى لها تبعة‏.‏ والتوبة الانسلاخ من المعاصي، والندم على ما سلف منها، والعزم على عدم العود إليها‏.‏ ومن قال‏:‏ الاستغفار توبة، جعل قوله‏:‏ ثم توبوا، بمعنى أخلصوا التوبة واستقيموا عليها‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وثم مرتبة، لأن الكافر أول ما ينيب، فإنه في طلب مغفرة ربه، فإذا تاب وتجرد من الكفر تم إيمانه‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ ما معنى ثمّ في قوله‏:‏ ثم توبوا إليه‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ معناه استغفروا من الشرك، ثم ارجعوا إليه بالطاعة‏.‏ وقرأ الحسن، وابن هرمز، وزيد بن علي، وابن محيصن‏:‏ يمتعكم بالتخفيف من أمتع، وانتصب متاعاً على أنه مصدر جاز على غير الفعل، أو على أنه مفعول به‏.‏ لأنك تقول‏:‏ متعت زيداً ثوباً، والمتاع الحسن الرضا بالميسور والصبر على المقدور، أو حسن العمل وقطع الأمل، أو النعمة الكافية مع الصحة والعافية، أو الحلال الذي لا طلب فيه ولا تعب، أو لزوم القناعة وتوفيق الطاعة أقوال‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ يطول نفعكم في الدنيا بمنافع حسنة مرضية، وعيشة واسعة، ونعمة متتابعة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وقيل هو فوائد الدنيا وزينتها، وهذا ضعيف‏.‏ لأنّ الكفار يشاركون في ذلك أعظم مشاركة، وربما زادوا على المسلمين في ذلك‏.‏ قال‏:‏ ووصف المتاع بالحسن إنما هو لطيب عيش المؤمن برجائه في الله عز وجل، وفي ثوابه وفرحه بالتقرب إليه بمفروضاته، والسرور بمواعيده، والكافر ليس في شيء من هذا، والأجل المسمى هو أجل الموت قاله‏:‏ ابن عباس والحسن‏.‏ وقال ابن جبير‏:‏ يوم القيامة، والضمير في فضله يحتمل أن يعود على الله تعالى أي‏:‏ يعطي في الآخرة كل من كان له فضل في عمل الخير، وزيادة ما تفضل به تعالى وزاده‏.‏ ويحتمل أن يعود على كل أي‏:‏ جزاء ذلك الفضل الذي عمله في الدنيا لا يبخس منه شيء، كما قال‏:‏ ‏{‏نوف إليهم أعمالهم‏}‏ أي جزاءها‏.‏ والدرجات تتفاضل في الجنة بتفاضل الطاعات، وتقدم أمران بينهما تراخ، ورتب عليهما جوابان بينهما تراخ، ترتب على الاستغفار التمتيع المتاع الحسن في الدنيا، كما قال‏:‏ ‏{‏فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً‏}‏ الآية وترتب على التوبة إيتاء الفضل في الآخرة، وناسب كل جواب لما وقع جواباً له، لأنّ الاستغفار من الذنب أول حال الراجع إلى الله، فناسب أن يرتب عليه حال الدنيا‏.‏ والتوبة هي المنجية من النار، والتي تدخل الجنة، فناسب أن يرتب عليها حال الآخرة‏.‏ والظاهر أنّ تولوا مضارع حذف منه التاء أي‏:‏ وإنْ تتولوا‏.‏ وقيل‏:‏ هو ماض للغائبين، والتقدير قيل لهم‏:‏ إني أخاف عليكم‏.‏ وقرأ اليماني، وعيسى بن عمر‏:‏ وإن تولوا بضم التاء واللام، وفتح الواو، مضارع وليّ، والأولى مضارع أولى‏.‏ وفي كتاب اللوامح اليماني وعيسى البصرة‏:‏ وإن تولوا بثلاث ضمات مرتباً للمفعول به، وهو ضد التبري‏.‏ وقرأ الأعرج‏:‏ تولوا بضم التاء واللام‏.‏ وسكون الواو، مضارع أولى، ووصف يوم بكبير وهو يوم القيامة لما يقع فيه من الأهوال‏.‏ وقيل‏:‏ هو يوم بدر وغيره من الأيام التي رموا فيها بالخذلان والقتل والسبي والنهب وأبعد من ذهب إلى أنّ كبير صفة لعذاب، وخفض على الجوار‏.‏ وباقي الآية تضمنت تهديداً عظيماً وصرحت بالبعث، وذكر أنّ قدرته عامة لجميع ما يشاء، ومن ذلك البعث، فهو لا يعجزه ما شاء من عذابهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏5‏)‏‏}‏

نزلت في الأخنس بن شريق، كان يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحلف أنه ليحبه ويضمر خلاف ما يظهر قاله ابن عباس‏.‏ وعنه أيضاً‏:‏ في ناس كانوا يستحيون أن يفضوا إلى السماء في الخلاء ومجامعة النساء‏.‏ وقيل‏:‏ في بعض المنافقين، كان إذا مر بالرسول صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطى وجهه كي لا يرى الرسول قاله‏:‏ عبد الله بن شدّاد‏.‏ وقيل‏:‏ في طائفة قالوا إذا أغلقنا أبوابنا، وأرخينا ستورنا، واستغشينا ثيابنا، وثنينا صدورنا، على عداوته كيف يعلم بنا‏؟‏ ذكره الزجاج‏.‏ وقيل‏:‏ فعلوا ذلك ليبعد عليهم صوت الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يدخل أسماعهم القرآن ذكره ابن الأنباري‏.‏ ويثنون مضارع ثنى قراءة الجمهور‏.‏ وقرأ سعيد بن جبير‏:‏ يثنون بضم الياء مضارع أثنى صدورهم بالنصب‏.‏ قال صاحب اللوامح‏:‏ ولا يعرف الاثناء في هذا الباب إلا أن يراد به وجدتها مثنية مثل أحمدته وأمجدته، ولعله فتح النون وهذا مما فعل بهم، فيكون نصب صدورهم بنزع الجار، ويجوز على ذلك أن يكون صدورهم رفعاً على البدل بدل البعض من الكل‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ ماضية أثنى، ولا يعرف في اللغة إلا أن يقال معناه‏:‏ عرضوها للاثناء، كما يقال‏:‏ أبعت الفرس إذا عرضته للبيع‏.‏ وقرأ ابن عباس، وعلي بن الحسين، وابناه زيد ومحمد، وابنه جعفر، ومجاهد، وابن يعمر، ونصر بن عاصم، وعبد الرحمن بن ابزي، والجحدري، وابن أبي إسحاق، وأبو الأسود الدؤلي، وأبو رزين، والضحاك‏:‏ تثنوني بالتاء مضارع اثنوني على وزن افعوعل نحو اعشوشب المكان صدورهم بالرفع، بمعنى تنطوي صدورهم‏.‏ وقرأ أيضاً ابن عباس، ومجاهد، وابن يعمر، وابن أبي إسحاق‏:‏ يثنوني بالياء صدورهم بالرفع، ذكر على معنى الجمع دون الجماعة‏.‏ وقرأ ابن عباس أيضاً ليثنون بلام التأكيد في خبر إنْ، وحذف الياء تخفيفاً وصدورهم رفع‏.‏ وقرأ ابن عباس أيضاً، وعروة، وابن أبي أبزي، والأعشى‏:‏ يثنون ووزنه يفعوعل من الثن، بنى منه افعوعل وهو ما هش وضعف من الكلأ، وأصله يثنونن يريد مطاوعة نفوسهم للشيء، كما ينثني الهش من النبات‏.‏ أو أراد ضعف إيمانهم ومرض قلوبهم وصدورهم بالرفع‏.‏ وقرأ عروة ومجاهد أيضاً‏:‏ كذلك إلا أنه همز فقرأ يثنئن مثل يطمئن، وصدورهم رفع، وهذه مما استثقل فيه الكسر على الواو كما قيل‏:‏ أشاح‏.‏ وقد قيل أن يثنئن يفعئل من الثن‏.‏ المتقدّم، مثل تحمارّ وتصفارّ، فحركت الألف لالتقائهما بالكسر، فانقلبت همزة‏.‏ وقرأ الأعشى‏:‏ يثنؤون مثل يفعلون مهموز اللام، صدورهم بالنصب‏.‏ قال صاحب اللوامح‏:‏ ولا أعرف وجهه لأنه يقال‏:‏ ثنيت، ولم أسمع ثنأت‏.‏ ويجوز أنه قلب الياء ألفاً على لغة من يقول‏:‏ أعطأت في أعطيت، ثم همز على لغة من يقول‏:‏

‏{‏ولا الضالين‏}‏ وقرأ ابن عباس‏:‏ يثنوي بتقديم الثاء على النون، وبغير نون بعد الواو على وزن ترعوي‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ وهذه القراءة غلط لا تتجه انتهى‏.‏ وإنما قال ذلك لأنه لاحط الواو في هذا الفعل لا يقال‏:‏ ثنوته فانثوى كما يقال‏:‏ رعوته أي كففته فارعوى فانكف، ووزنه أفعل‏.‏ وقرأ نضير بن عاصم، وابن يعمر، وابن أبي إسحاق‏:‏ يثنون بتقديم النون على الثاء، فهذه عشر قراآت في هذه الكلمة‏.‏ والضمير في أنهم عائد على بعض من بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم من الكفار أي‏:‏ يطوون صدورهم على عدواته‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ يثنون صدورهم يزوّرون عن الحق وينحرفون عنه، لأنّ من أقبل على الشيء استقبله بصدره، ومن ازورّ عنه وانحرف ثنى عنه صدره وطوى عنه كشحه ليستخفوا منه، يعني‏:‏ ويريدون ليستخفوا من الله، فلا يطلع رسوله والمؤمنين على ازورارهم‏.‏ ونظير إضمار يريدون، لعود المعنى إلى إضماره الإضمار في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن اضرب بعصاك البحر فانفلق‏}‏ معناه‏:‏ فضرب فانفلق‏.‏ ومعنى ألا حين‏:‏ يستغشون ثيابهم ويريدون الاستخفاء حين يستغشون ثيابهم أيضاً كراهة لاستماع كلام الله كقول نوح عليه السلام‏:‏ ‏{‏جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم‏}‏ انتهى‏.‏ فالضمير في منه على قوله عائد على الله، قال ابن عطية‏:‏ وهذا هو الأفصح الأجزل في المعنى انتهى‏.‏ ويظهر من بعض أسباب النزول أنه عائد على الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال ابن عطية‏.‏ قال‏:‏ قيل‏:‏ إنّ هذه الآية نزلت في الكفار الذين كانوا إذا لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تطامنوا وثنوا صدورهم كالمتستر، وردّوا إليه ظهورهم، وغشوا وجوههم بثيابهم تباعداً منهم وكراهية للقائه، وهم يظنون أنّ ذلك يخفى عليه أو عن الله تعالى فنزلت الآية انتهى‏.‏ فعلى هذا يكون ليستخفوا متعلقاً بقوله‏:‏ يثنون، وكذا قال الحوفي‏.‏ وقيل‏:‏ هي استعارة للغل، والحقد الذي كانوا ينطوون عليه كما تقول‏:‏ فلان يطوي كشحه على عداوته، ويثني صدره عليها، فمعنى الآية‏:‏ ألا إنهم يسرون العداوة ويتكتمون لها، ليخفي في ظنهم عن الله عز وجل، وهو تعالى حين تغشيهم بثيابهم وإبلاغهم في التستر يعلم ما يسرون انتهى‏.‏ فعلى هذا يكون حين معمولاً لقوله‏:‏ يعلم، وكذا قاله الحوفي لا للمضمر الذي قدره الزمخشري وهو قوله‏:‏ ويريدون الاستخفاء حين يستغشون ثيابهم‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ ألا حين العامل في الظرف محذوف أي‏:‏ ألا حين يستغشون ثيابهم يستخفون، ويجوز أن يكون ظرفاً ليعلم‏.‏ وقيل‏:‏ كان بعضهم ينحني على بعض ليساره في الطعن على المسلمين، وبلغ من جهلهم أنّ ذلك يخفى على الله تعالى‏.‏ قال قتادة‏:‏ أخفى ما يكون إذا حتى ظهره واستغشى ثوبه، وأضمر في نفسه همته‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ يطوونها على الكفر‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ يخفون ما في صدورهم من الشحناء‏.‏

وقال قتادة‏:‏ يخفون ليسمعوا كلام الله‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ يكتمونها إذا ناجى بعضهم بعضاً في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ يثنونها حياءً من الله تعالى، ومعنى يستغشون‏:‏ يجعلونها أغشية‏.‏ ومنه قول الخنساء‏:‏

أرعى النجوم وما كلفت رعيتها *** وتارة أتغشى فضل أطماري

وقيل‏:‏ المراد بالثياب الليل، واستعيرت له لما بينهما من العلاقة بالستر، لأن الليل يستر كما تستر الثياب ومنه قولهم‏:‏ الليل أخفى للويل، وقرأ ابن عباس‏:‏ على حين يستغشون‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ومن هذا الاستعمال قول النابغة‏:‏

على حين عاتبت المشيب على الصبا *** وقلت ألما أصح والشيب وازع

انتهى‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ ما يسرون بقلوبهم، وما يعلنون بأفواههم‏.‏ وقيل‏:‏ ما يسرون بالليل وما يعلنون بالنهار‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ معناه أنه يعلم سرائرهم كما يعلم مظهرانهم‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ يعني أنه لا تفاوت في علمه بين إسرارهم وإعلانهم، فلا وجه لتوصلهم إلى ما يريدون من الاستخفاء والله مطلع على ثنيهم صدورهم، واستغشائهم بثيابهم، ونفاقهم غير نافق عنده‏.‏ وقال صاحب التحرير‏:‏ الذي يقتضيه سياق الآية أنه أراد بما يسرون ما انطوت عليه صدورهم من الشرك والنفاق والغل والحسد والبغض للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لأنّ ذلك كله من أعمال القلوب، وأعمال القلوب خفيه جدًّا، وأراد بما يعلنون ما يظهرونه من استدبارهم النبي صلى الله عليه وسلم وتغشية ثيابهم، وسدّ آذانهم وهذه كلها أعمال ظاهرة لا تخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏6‏)‏‏}‏

الدابة هنا عام في كل حيوان يحتاج إلى رزق، وعلى الله ظاهر في الوجوب، وإنما هو تفضل، ولكنه لما ضمن تعالى أن يتفضل به عليهم أبرزه في حيز الوجوب‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ مستقرها حيث تأوى إليه من الأرض، ومستودعها الموضع الذي تموت فيه فتدفن‏.‏ وعنه أيضاً‏:‏ مستقرها في الرحم، ومستودعها في الصلب‏.‏ وقال الربيع بن أنس‏:‏ مستقرها في أيام حياتها، ومستودعها حين تموت وحين تبعث‏.‏ وقيل‏:‏ مستقرها في الجنة أو في النار، ومستودعها في القبر، ويدل عليه‏:‏ ‏{‏حسنت مستقرّاً‏}‏ ‏{‏وساءت مستقراً‏}‏ وقيل‏:‏ ما يستقر عليه عملها، ومستودعها ما تصير إليه‏.‏ وقيل‏:‏ المستقر ما حصل موجوداً من الحيوان، والمستودع ما سيوجد بعد المستقر‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ المستقر مكانه من الأرض ومسكنه، والمستودع حيث كان موجوداً قبل الاستقرار من صلب أو رحم أو بيضة انتهى‏.‏ ومستقر ومستودع يحتمل أن يكونا مصدرين، ويحتمل أن يكونا اسمي مكان، ويحتمل مستودع أن يكون اسم مفعول لتعدّي الفعل منه، ولا يحتمله مستقر للزوم فعله كل أي‏:‏ كل من الرزق والمستقر والمستودع في اللوح يعني‏:‏ وذكرها مكتوب فيه مبين‏.‏ وقيل‏:‏ الكتاب هنا مجاز، وهو إشارة إلى علم الله، وحمله على الظاهر أولى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 8‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏7‏)‏ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

لما ذكر تعالى ما يدل على كونه تعالى عالماً، ذكر ما يدل على كونه قادراً، وتقدّم تفسير الجملة الأولى في سورة يونس‏.‏ والظاهر أنّ قوله‏:‏ وكان عرشه على الماء، تقديره قبل خلق السموات والأرض، وفي هذا دليل على أنّ الماء والعرش كانا مخلوقين قبل‏.‏ قال كعب‏:‏ خلق الله ياقوتة خضراء فنظر إليها بالهيبة فصارت ماء، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها، ثم وضع العرش على الماء‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه وقد قيل له‏:‏ على أي شيء كان الماء‏؟‏ قال‏:‏ كان على متن الريح، والظاهر تعليق ليبلوكم بخلق‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ أي خلقهن لحكمة بالغة، وهي أنْ يجعلها مساكن لعباده، وينعم عليهم فيها بفنون النعم، ويكلفهم فعل الطاعات واجتناب المعاصي، فمن شكر وأطاع أثابه، ومن كفر وعصى عاقبه‏.‏ ولما أشبه ذلك اختبار المختبر قال‏:‏ ليبلوكم، يريد ليفعل بكم ما يفعل المبتلي لأحوالكم كيف تعملون‏.‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ كيف جاز تعليق فعل البلوى‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ لما في الاختبار من معنى العلم، لأنه طريق الله، فهو ملابس له كما تقول‏:‏ انظر أيهم أحسن وجهاً، واستمع أيهم أحسن صوتاً، لأنّ النظر والاستماع من طرق العلم انتهى‏.‏ وفي قوله‏:‏ ومن كفر وعصى عاقبه، دسيسة الاعتزال‏.‏ وأما قوله‏:‏ واستمع أيهم أحسن صوتاً، فلا أعلم أحداً ذكر أن استمع تعلق، وإنما ذكروا من غير أفعال القلوب سل وانظر، وفي جواز تعليق رأي البصرية خلاف‏.‏ وقيل‏:‏ ليبلوكم متعلق بفعل محذوف تقديره أعلم بذلك ليبلوكم، ومقصد هذا التأويل أن هذه المخلوقات لم تكن بسبب البشر‏.‏ وقيل‏:‏ تقدير الفعل، وخلقكم ليبلوكم‏.‏ وقيل‏:‏ في الكلام جمل محذوفة، التقدير‏:‏ وكان خلقه لهما لمنافع يعود عليكم نفعها في الدنيا دون الأخرى، وفعل ذلك ليبلوكم‏.‏ ومعنى أيكم أحسن عملاً‏:‏ أهذا أحسن أم هذا‏.‏ قال ابن بحر‏:‏ روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أيكم أحسن عقلاً، وأورع عن محارم الله، وأسرع في طاعة الله» ولو صح هذا التفسير عن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعدل عنه‏.‏ وقال الحسن‏:‏ أزهد في الله‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ أتقى لله‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ أكثركم شكراً‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ فكيف قيل‏:‏ أيكم أحسن عملاً وأعمال المؤمنين هي التي تتفاوت إلى حسن وأحسن، فأما أعمال المؤمنين والكافرين فتفاوتهما إلى حسن وقبيح‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ الذين هم أحسن عملاً هم المتقون، وهم الذين استبقوا إلى تحصيل ما هو غرض الله منن عباده، فخصهم بالذكر، واطرح ذكر من وراءهم تشريفاً لهم وتنبيهاً على مكانهم، وليكون ذلك تيقظاً للسامعين وترغيباً في حيازة فضلهم انتهى‏.‏ ولئن قلت، خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقرأ عيسى الثقفي‏:‏ ولئن قلت بضم التاء إخباراً عنه تعالى، والمعنى‏:‏ ولئن قلت مستدلاً على البعث من بعد الموت، إذ في قوله تعالى‏:‏ وهو الذي خلق، دلالة على القدرة‏:‏ العظيمة، فمتى أخبر بوقوع ممكن وقع لا محالة، وقد أخبر بالبعث فوجب قبوله وتيقن وقوعه‏.‏

وقرئ‏:‏ أيكم بفتح الهمزة‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ووجهه أن يكون من قولهم‏:‏ ائت السوق إنك تشتري لحماً، بمعنى علك أي‏:‏ ولئن قلت لهم لعلكم مبعوثون بمعنى توقعوا بعثكم وظنوه، لأثبتوا القول بإنكاره لقالوا‏:‏ ويجوز أن يضمن‏.‏ قلت معنى ذكرت انتهى يعني‏:‏ فبفتح الهمزة لأنها في موضع مفعول ذكرت، والظاهر الإشارة بهذا إلى القول أي‏:‏ إن قولك إنكم مبعوثون إلا سحر أي بطلان هذا القول كبطلان السحر، ويحتمل أن يكون إشارة إلى ما دلت عليه الجملة من البعث‏.‏ أي‏:‏ إن البعث‏.‏ وقيل‏:‏ أشاروا بهذا إلى القرآن، وهو الناطق بالبعث، فإذا جعلوه سحراً فقد اندرج تحته إنكار ما فيه من البعث وغيره‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ كذبوا وقالوا‏:‏ هذا سحر، فهذا تناقض منهم إن كان مفطوراً بقربات الله فاطر السموات والأرض فهو من جملة المقرب بهذا، وهم مع ذلك ينكرون ما هو أيسر منه بكثير وهو البعث من القبور، إذ البداءة أعسر من الإعادة، وإذ خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس انتهى‏.‏ وقرأ الحسن، والأعرج، وأبو جعفر، وشيبة، وفرقة من السبعة‏:‏ سحر‏.‏ وقرأت فرقة‏:‏ ساحر، يريدون والساحر كاذب مبطل، ولئن أخرنا حكى تعالى نوعاً آخر من أباطيلهم واستهزائهم، والعذاب هنا عذاب القيامة‏.‏ وقيل‏:‏ عذاب يوم بدر‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ قتل جبريل المستهزئين، والظاهر العذاب الموعود به، والأمّة هنا المدة من الزمان قاله‏:‏ ابن عباس، وقتادة، ومجاهد، والجمهور، ومعناه‏:‏ إلى حين‏.‏ ووقت معلوم ما يحبسه استفهام، قالوه وهو على سبيل التكذيب والاستهزاء‏.‏ قال الطبري‏:‏ سميت المدة أمة، لأنها يقضي فيها أمة من الناس وتحدث أخرى، فهي على هذا المدة الطويلة، ثم استفتح الأخبار بأنه يوم لا يردّه شيء ولا يصرفه‏.‏ والظاهر أنّ يوم منصوب بقوله‏:‏ مصروفاً، فهو معمول لخبر ليس‏.‏ وقد استدل به على جواز تقديم خبر ليس عليها قالوا‏:‏ لأن تقدم المعمول يؤذن بتقدم العامل، ونسب هذا المذهب لسيبويه، وعليه أكثر البصريين‏.‏ وذهب الكوفيون والمبرد‏:‏ إلى أنه لا يجوز ذلك، وقالوا‏:‏ لا يدل جواز تقدم المعمول على جواز تقدم العامل‏.‏ وأيضاً فإنّ الظرف المجرور يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما، ويقعان حيث لا يقع العامل فيهما نحو‏:‏ إن اليوم زيداً مسافر، وقد تتبعت جملة من دواوين العرب فلم أظفر بتقدم خبر ليس عليها، ولا بمعموله، إلا ما دل عليه ظاهر هذه الآية، وقول الشاعر‏:‏

فيأبى فما يزداد إلا لجاجه *** وكنت أبياً في الخفا لست أقدم

وتقدم تفسير جملة وحاق بهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 11‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ ‏(‏9‏)‏ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ‏(‏10‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

لما ذكر تعالى عذاب الكفار وإنْ تأخر لا بد أن يحيق بهم، ذكر ما يدل على كفرهم وكونهم مستحقين العذاب لما جبلوا عليه من كفر نعماء الله، وما يترتب على إحسانه تعالى إليهم مما لا يليق بهم من فخرهم على عباد الله‏.‏ والظاهر أنّ الإنسان هنا هو جنس، والمعنى‏:‏ إنَّ هذا الخلق في سجايا الناس، ثم استثنى منهم الذين ردّتهم الشرائع والإيمان إلى الصبر والعمل الصالح، ولذلك جاء الاستثناء منه في قوله‏:‏ إلا الذين صبروا متصلاً‏.‏ وقيل‏:‏ المراد هنا بالإنسان الكافر‏.‏ وقيل‏:‏ المراد به إنسان معين، فقال ابن عباس‏:‏ هو الوليد بن المغيرة، وفيه نزلت‏.‏ وقيل‏:‏ عبد الله بن أمية المخزومي، وذكره الواحدي، وعلى هذين القولين يكون استثناء منقطعاً ومعنى رحمة‏:‏ نعمة من صحة، وأمن وجدة، ثم نزعناها أي سلبناها منه‏.‏ ويؤوس كفور، صفتا مبالغة والمعنى‏:‏ إنه شديد اليأس كثيره، ييأس أنْ يعود إليه مثل تلك النعمة المسلوبة، ويقطع رجاءه من فضل الله من غير صبر ولا تسليم لقضائه‏.‏ كفور كثير الكفران، لما سلف لله عليه من نعمة ذكر حالة الإنسان إذ بدئ بالنعمة ولم يسبقه الضر، ثم ذكر حاله إذا جاءته النعمة بعد الضر‏.‏ ومعنى ذهب السيئات أي‏:‏ المصائب التي تسوءني‏.‏ وقوله هذا يقتضي نظراً وجهلاً، لأن ذلك بإنعام من الله، وهو يعتقد أنّ ذلك اتفاق أو بعد، وهو اعتقاد فاسد‏.‏ إنه لفرح أشر بطر، وهذا الفرح مطلق، فلذلك ذم المتصف به، ولم يأت في القرآن للمدح إلا مقيداً بما فيه خير كقوله‏:‏ ‏{‏فرحين بما آتاهم الله من فضله‏}‏ وقرأ الجمهور‏:‏ لفرح بكسر الراء، وهي قياس اسم الفاعل من فعل اللازم‏.‏ وقرأت فرقة‏:‏ لفرح بضم الراء، وهي كما تقول‏:‏ ندس، ونطس‏.‏ وفخره هو تعاظمه على الناس بما أصابه من النعماء، واستثنى تعالى الصابرين يعني على الضراء وعاملي الصالحات‏.‏ ومنها الشكر على النعماء‏.‏ أولئك لهم مغفرة لذنوبهم يقتضي زوال العقاب والخلاص منه، وأجر كبير هو الجنة، فيقتضي الفوز بالثواب‏.‏ ووصف الأجر بقوله‏:‏ كبير، لما احتوى عليه من النعيم السرمدي ورفع التكاليف، والأمن العذاب، ورضا الله عنهم، والنظر إلى وجهه الكريم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ‏(‏12‏)‏‏}‏

قال الزمخشري‏:‏ كانوا يقترحون عليه آيات تعنتاً لا استرشاد، لأنهم لو كانوا مسترشدين لكانت آية واحدة مما جاء به كافية في رشادهم‏.‏ ومن اقتراحاتهم‏:‏ لولا أنزل عليه كنز، أو جاء معه ملك، وكانوا لا يعتدون بالقرآن، ويتهاونون به وبغيره مما جاء به من البينات، فكان يضيق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه، فحرك الله منه وهيجه لأداء الرسالة وطرح المبالاة بردهم واستهزائهم واقتراحهم بقوله‏:‏ فلعلك تارك بعض ما يوحي إليك أي‏:‏ لعلك تترك أن تلقيه إليهم، وتبلغه إياهم مخافة ردهم وتهاونهم به، وضائق به صدرك بأنْ تتلو عليهم أن يقولوا مخافة أن يقولوا‏:‏ لولا أنزل عليه كنز، هلا أنزل عليه ما اقترحنا نحن من الكنز والملائكة، ولم ينزل عليه ما لا نريده ولا نقترحه‏.‏ ثم قال‏:‏ إنما أنت نذير أي‏:‏ ليس عليك إلا أن تنذرهم بما أوحي إليك، وتبلغهم ما أمرت بتبليغه، ولا عليك ردّوا أو تهاونوا أو اقترحوا، والله على كل شيء وكيل يحفظ ما يقولون، وهو فاعل بهم ما يجب أن يفعل، فتوكل عليه، وكل أمرك إليه‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ سبب نزول هذه الآية أن كفار قريش قالوا‏:‏ يا محمد لو تركت سب آلهتنا وتسفيه آبائنا لجالسناك واتبعناك، وقالوا‏:‏ إئت بقرآن غير هذا أو بدله، ونحو هذا من الأقوال، فخاطب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على هذه الصورة من المخاطبة، وقفه بها توقيفاً رادّاً على أقوالهم، ومبطلاً لها‏.‏ وليس المعنى أنه عليه السلام هم بشيء من ذلك ثم خرج عنه، فإنه لم يرد قط ترك شيء مما أوحي إليه، ولا ضاق صدره به، وإنما كان يضيق صدره بأقوالهم وأفعالهم وبعدهم عن الإيمان‏.‏ ولعلك ههنا بمعنى التوقيف والتقرير، وما يوحي إليه هو القرآن والشريعة والدعاء إلى الله كان في ذلك سب آلهتهم، وتسفيه آبائهم أو غيره‏.‏ ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد عظم عليه ما يلقى من الشدة، فمال إلى أن يكون من الله إذن في مساهلة الكفار بعض المساهلة، ونحو هذا من الاعتقادات التي تليق به صلى الله عليه وسلم كما جاءت آيات الموادعة‏.‏ وعبر بضائق دون ضيق للمناسبة في اللفظ مع تارك، وإن كان ضيق أكثر استعمالاً، لأنه وصف لازم، وضائق وصف عارض‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ لم عدل عن ضيق إلى ضائق‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ ليدل على أن ضيق عارض غير ثابت، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفسح الناس صدراً‏.‏ ومثله قولك‏:‏ سيد وجواد، تريد السيادة والجود الثابتين المستقرين، فإذا أردت الحدوث قلت‏:‏ سائد وجائد انتهى‏.‏

وليس هذا الحكم مختصاً بهذه الألفاظ، بل كل ما يبنى من الثلاثي للثبوت والاستقرار على غير وزن فاعل رد إليه إذا أريد معنى الحدوث، فنقول‏:‏ حاسن من حسن، وثاقل من ثقل، وفارح من فرح، وسامن من سمن، وقال بعض اللصوص يصف السجن ومن سجن فيه‏:‏

بمنزلة أما اللئيم فسامن بها *** وكرام الناس باد شحوبها

والظاهر عود الضمير في به على بعض‏.‏ وقيل‏:‏ على ما، وقيل‏:‏ على التبليغ، وقيل‏:‏ على التكذيب، قيل ولعل هنا للاستفهام بمعنى هل، والمعنى‏:‏ هل أنت تارك ما فيه تسفيه أحلامهم وسب آلهتهم كما سألوك‏؟‏ وقدروا كراهته أن يقولوا، ولئلا يقولوا، وبأن يقولوا، ثلاثة أقوال‏.‏ والكنز المال الكثير‏.‏ وقالوا‏:‏ أنزل، ولم يقولوا أعطى، لأن مرادهم التعجيز، وأنهم التمسوا أن ينزل عليه من السماء كنز على خلاف العادة، فإنّ الكنوز إنما تكون في الأرض‏.‏ وطلبهم آية تضطر إلى الإيمان، والله عز وجل لم يبعث الأنبياء بآيات اضطرار، إنما بعثهم بآيات النظر والاستدلال، ولم يجعل آية الاضطرار إلا للأمة التي أراد تعذيبها لكفرها بعد آية الاستدلال، كالناقة لثمود، وآنسه تعالى بقوله؛ إنما أنت نذير، أي‏:‏ الذي فوض إليك هو النذارة لا تحصيل هدايتهم، فإن ذلك إنما هو لله تعالى‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ وقيل‏:‏ كافل بالمصالح قادر عليها‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ المحصي لإيمان من شاء، وكفر من شاء‏.‏ قيل‏:‏ وهذه الآية منسوخة، وقيل‏:‏ محكمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 14‏]‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏13‏)‏ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

الظاهر أنّ أم منقطعة تتقدر ببل، والهمزة أي‏:‏ أيقولون افتراه‏.‏ وقال ابن القشيري‏:‏ أم استفهام توسط الكلام على معنى‏:‏ أيكتفون بما أوحيت إليك من القرآن، أم يقولون إنه ليس من عند الله، فإن قالوا‏:‏ إنه ليس من عند الله فليأتوا بمثله انتهى‏.‏ فجعل أم متصلة، والظاهر الانقطاع كما قلنا، والضمير في افتراه عائد على قوله‏:‏ ما يوحى إليك، وهو القرآن‏.‏

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنها لا تتعلق أطماعهم بأن يترك بعض ما يوحى إليه إلا لدعواهم أنه ليس من عند الله، وأنه هو الذي افتراه، وإنما تحداهم أولاً بعشر سور مفتريات قبل تحديهم بسورة، إذ كانت هذه السورة مكية، والبقرة مدنية، وسورة يونس أيضاً مكية، ومقتضى التحدي بعشر أن يكون قبل طلب المعارضة بسورة، فلما نسبوه إلى الافتراء طلب منهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات إرخاء لعنانهم، وكأنه يقول‏:‏ هبوا إني اختلقته ولم يوح إليّ فأتوا أنتم بكلام مثله مختلق من عند أنفسكم، فأنتم عرب فصحاء مثلي لا تعجزون عن مثل ما أقدر عليه من الكلام، وإنما عين بقوله‏:‏ مثله، في حسن النظم والبيان وإن كان مفترى‏.‏ وشأن من يريد تعجيز شخص أن يطالبه أولاً بأنْ يفعل أمثالاً مما فعل هو، ثم إذا تبين عجزه قال له‏:‏ افعل مثلاً واحداً ومثل يوصف به المفرد والمثنى والمجموع كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أنؤمن لبشرين مثلنا‏}‏ وتجوز المطابقة في التثنية والجمع كقوله‏:‏ ‏{‏ثم لا يكونوا أمثالكم‏}‏ ‏{‏وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون‏}‏ وإذا أفرد وهو تابع لمثنى أو مجموع فهو بتقدير المثنى، والمجموع أي‏:‏ مثلين وأمثال‏.‏ والمعنى هنا بعشر سور أمثاله ذهاباً إلى مماثلة كل سورة منها له‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وقع التحدي في هذه الآية بعشر لأنه قيدها بالافتراء، فوسع عليهم في القدر لتقوم الحجة غاية القيام، إذ قد عجزهم في غير هذه الآية بسورة مثله دون تقييد، فهي مماثلة تامة في غيوب القرآن ونظمه ووعده ووعيده، وعجزوا في هذه الآية بأن قيل لهم‏:‏ عارضوا القدر منه بعشر أمثاله في التقدير، والغرض واحد، واجعلوه مفترى لا يبقى لكم إلا نظمه، فهذه غاية التوسعة‏.‏ وليس المعنى عارضوا عشر سور بعشر، لأنّ هذه إنما كانت تجيء معارضة سورة بسورة مفتراة، ولا يبالي عن تقديم نزول هذه على هذه، ويؤيد هذا النظر أن التكليف في آية البقرة إنما هو بسبب الريب، ولا يزيل الريب إلا العلم بأنهم لا يقدرون على المماثلة التامة‏.‏ وفي هذه الآية إنما التكليف بسبب قولهم‏:‏ افتراه وكلفوا نحو ما قالوا‏:‏ ولا يطرد هذا في آية يونس‏.‏ وقال بعض الناس‏:‏ هذه مقدمة في النزول على تلك، ولا يصح أن تكون السورة الواحدة إلا مفتراة، وآية سورة يونس في تكليف سورة مرتبة على قولهم افتراه، وكذلك آية البقرة إنما رمتهم بأن القرآن مفترى‏.‏

وقائل هذا القول لم يلحظ الفرق بين التكليفين في كمال المماثلة مرة، ووقوفها على النظم مرة انتهى‏.‏ والظاهر أن قوله‏:‏ مثله، لا يراد به المثلية في كون المعارض عشر سور، بل مثله يدل على مماثلة في مقدار ما من القرآن‏.‏ وروي عن ابن عباس‏:‏ أنّ السور التي وقع بها طلب المعارضة لها هي معينة البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة، ويونس، وهود‏.‏ فقوله‏:‏ مثله، أي مثل هذه عشر السور، وهذه السور أكثرها مدني، فكيف تصح الحوالة بمكة على ما لم ينزل بعد‏؟‏ ولعل هذا لا يصح عن ابن عباس‏.‏ والضمير في فإن لم يستجيبوا لكم، عائد على من طلب منهم المعارضة، ولكم الضمير جمع يشمل الرسول والمؤمنين‏.‏ وجوز أن يكون خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل التعظيم، كما جاء ‏{‏فإن لم يستجيبوا لك‏}‏ قاله‏:‏ مجاهد‏.‏ وقيل‏:‏ ضمير يستجيبوا عائد على المدعوين، ولكم خطاب للمأمورين بدعاء من استطاعوا قاله الضحاك أي فإنْ لم يستجب من تدعونه إلى المعارضة فأذعنوا حينئذ، واعلموا أنه من عند الله وأنه أنزل ملتبساً بما لا يعلمه إلا الله من نظم معجز للخلق، وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليه‏.‏ واعلموا عند ذلك أنه لا إله إلا هو، وأن توحيده واجب، فهل أنتم مسلمون‏؟‏ أي تابعون للإسلام بعد ظهور هذه الحجة القاطعة‏؟‏ وعلى أن الخطاب للمؤمنين معنى فاعلموا أي‏:‏ دوموا على العلم وازدادوا يقيناً وثبات قدم أنه من عند الله‏.‏ ومعنى فهل أنتم مسلمون‏:‏ أي مخلصو الإسلام، وقال مقاتل‏:‏ بعلم الله، بإذن الله‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ بأمره‏.‏ وقال القتبي‏:‏ من عند الله، والذي يظهر أن الضمير في فإن لم يستجيبوا عائد على من استطعتم، وفي لكم عائد على الكفار، لعود الضمير على أقرب مذكور، ولكون الخطاب يكون لواحد‏.‏ ولترتب الجواب على الشرط ترتباً حقيقياً من الأمر بالعلم، ولا يتحرر بأنه أراد به فدوموا على العلم، ودوموا على العلم بأنه لا إله إلا هو، ولأن يكون قوله‏:‏ فهل أنتم مسلمون تحريضاً على تحصيل الإسلام، لا أنه يراد به الإخلاص‏.‏ ولما طولبوا بالمعارضة وأمروا بأن يدعوا من يساعدهم على تمكن المعارضة، ولا استجاب أصنامهم ولا آلهتهم لهم، أمروا بأن يعلموا أنه من عند الله وليس مفترى فتمكن معارضته، وأنه تعالى هو المختص بالألوهية لا يشركه في شيء منها آلهتهم وأصنامهم، فلا يمكن أن يجيبوا لظهور عجزهم، وأنها لا تنفع ولا تضر في شيء من المطالب‏.‏ وقرأ زيد بن علي‏:‏ إنما نزل بفتح النون والزاي وتشديدها، واحتمل أن تكون ما مصدرية أي‏:‏ أنّ التنزيل، واحتمل أن تكون بمعنى الذي أي‏:‏ إن الذي نزله، وحذف الضمير المنصوب لوجود جواز الحذف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 16‏]‏

‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ‏(‏15‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

مناسبة هذه الآية لما قبلها، أنه تعالى لما ذكر شيئاً من أحوال الكفار المناقضين في القرآن، ذكر شيئاً من أحوالهم الدنيوية وما يؤولون إليه في الآخرة‏.‏ وظاهر من العموم في كل من يريد زينة الحياة الدنيا، والجزاء مقرون بمشيئته تعالى كما بين ذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء‏}‏ الآية‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هي في الكفرة، وفي أهل الرياء من المؤمنين‏.‏ وإلى هذا ذهب معونة حين حدث بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرائين، فتلا هذه الآية‏.‏ وقال أنس‏:‏ هي في اليهود والنصارى‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ومعنى هذا أنهم يدخلون في هذه الآية لا أنها ليست لغيرهم‏.‏ وقيل‏:‏ في المنافقين الذين جاهدوا مع الرسول فاسهم لهم، ومعنى يريد الحياة الدنيا أي يقصد بأعماله التي يظهر أنها صالحة الدنيا فقط، ولا يعتقد آخره‏.‏ فإنّ الله يجازيه على حسن أعماله كما جاء، وأما الكافر فيطعمه في الدنيا بحسناته‏.‏ وإن اندرج في العموم المراؤون من أهل القبلة كما ترى أحدهم إذا صلى إماماً يتنغم بألفاظ القرآن، ويرتله أحسن ترتيل، ويطيل ركوعه وسجوده، ويتباكى في قراءته، وإذا صلى وحده اختلسها اختلاساً، وإذا تصق أظهر صدقته أمام من يثني عليه، ودفعها لمن لا يستحقها حتى يثني عليه الناس، وأهل الرباط المتصدق عليهم‏.‏ وأين هذا من رجل يتصدق خفية وعلى من لا يعرفه، كما جاء في‏:‏ «السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه» وهذه مبالغة في إخفاء الصدقة جداً، وإذا تعلم علماً راءى به وتبجح، وطلب بمعظمه يسير حطام من عرض الدنيا‏.‏ وقد فشا الرياء في هذه الآية فشواً كثيراً حتى لا تكاد ترى مخلصاً لله لا في قول، ولا في فعل، فهؤلاء من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ نوفّ بنون العظمة، وطلحة بن ميمون‏:‏ يوف بالياء على الغيبة‏.‏ وقرأ زيد بن علي‏:‏ يوف بالياء مخففاً مضارع أوفى‏.‏ وقرئ توف بالتاء مبنياً للمفعول، وأعمالهم بالرفع، وهو على هذه القراآت مجزوم جواب الشرط، كما انجزم في قوله‏:‏ ‏{‏من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه‏}‏ وحكي عن الفراء أنّ كان زائدة، ولهذا جزم الجواب‏.‏ ولعله لا يصح، إذ لو كانت زائدة لكان فعل الشرط يريد، وكان يكون مجزوماً، وهذا التركيب من مجيء فعل الشرط ماضياً والجواب مضارعاً ليس مخصوصاً بكان، بل هو جائز في غيرها‏.‏ كما روي في بيت زهير‏:‏

ومن أهاب أسباب المنايا ينلنه *** ولو رام أن يرقى السماء بسلم

وقرأ الحسن‏:‏ نوفي بالتخفيف وإثبات الياء، فاحتمل أن يكون مجزوماً بحذف الحركة المقدرة على لغة من قال‏:‏ ألم يأتيك وهي لغة لبعض العرب، واحتمل أن يكون مرفوعاً كما ارتفع في قول الشاعر‏:‏

وإن شل ريعان الجميع مخافة *** يقول جهاراً ويلكم لا تنفروا

والحصر في كينونة النار لهم ظاهر في أنّ الآية في الكفار، فإنْ اندرج أهل الرياء فيها فيكون المعنى في حقهم‏:‏ ليس يجب لهم ولا يحق لهم إلا النار كقوله‏:‏ ‏{‏فجزاؤه جهنم‏}‏ وجائز أن يتغمدهم الله برحمته وهو ظاهر قول ابن عباس وابن جبير‏.‏ والضمير في قوله‏:‏ ما صنعوا فيها، الظاهر أنه عائد على الآخرة، والمحرور متعلق بحبط، والمعنى‏:‏ وظهر حبوط ما صنعوا في الآخرة‏.‏ ويجوز أن تتعلق بقوله‏:‏ صنعوا، فيكون عائداً على الحياة الدنيا، كما عاد عليها في فيها قبل‏.‏ وما في فيما صنعوا بمعنى الذي‏.‏ أو مصدرية، وباطل وما بعده توكيد لقوله‏:‏ وحبط ما صنعوا، وباطل خبر مقدم إن كان من عطف الجمل، وما كانوا هو المبتدأ، وإن كان خبراً بعد خبرٍ ارتفع ما بباطل على الفاعلية‏.‏ وقرأ زيد بن علي‏:‏ وبطل جعله فعلاً ماضياً‏.‏ وقرأ أبي، وابن مسعود‏:‏ وباطلاً بالنصب، وخرجه صاحب اللوامح على أنه مفعول ليعملون، فهو معمول خبر كان متقدماً‏.‏ وما زائدة أي‏:‏ وكانوا يعملون باطلاً، وفي جواز هذا التركيب خلاف بين النحويين‏.‏ وهو أن يتقدم معمول الخبر على الجملة بأسرها من كان اسمها وخبرها، ويشهد للجواب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون‏}‏ ومن منع تأول‏.‏ وأجاز الزمخشري أن ينتصب باطلاً على معنى المصدر على بطل بطلانا ما كانوا يعملون، فتكون ما فاعلة، وتكون من إعمال المصدر الذي هو بدل من الفعل في غير الاستفهام والأمر، وحق أن يبطل أعمالهم لأنها لم تعمل لوجه صحيح، والعمل الباطل لا ثواب له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

لمّا ذكر حال من يريد الحياة الدنيا ذكر حال من يريد وجه الله تعالى بأعماله الصالحة، وحذف المعادل الذي دخلت عليه الهمزة والتقدير‏:‏ كمن يريد الحياة الدنيا‏.‏ وكثيراً ما حذف في القرآن كقوله‏:‏ ‏{‏أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أمّن هو قانت آناء الليل‏}‏ وهذا استفهام معناه التقرير‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ أي، لا تعقبونهم في المنزلة ولا تفارقونهم، يريد أنّ بين الفريقين تفاوتاً بعيداً وتبايناً بيناً، وأراد بهم من آمن من اليهود كعبد الله بن سلام وغيره، كان على بينة من ربه أي‏:‏ على برهان من الله تعالى وبيان أن دين الإسلام حق وهو دليل العقل، ويتلوه ويتبع ذلك البرهان شاهد منه أي‏:‏ شاهد يشهد بصحته وهو القرآن منه من الله، أو شاهد من القرآن ومن قبله‏.‏ ومن قبل القرآن كتاب موسى وهو التوراة أي‏:‏ ويتلو ذلك أيضاً من قبل القرآن كتاب موسى‏.‏ وقرئ كتاب موسى بالنصب، ومعناه كان على بينة من ربه وهو الدليل على أنّ القرآن حق، ويتلوه ويقرأ القرآن شاهد منه، شاهد ممن كان على بينة كقوله‏:‏ ‏{‏وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله‏}‏ ‏{‏قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب‏}‏ ‏{‏ومن قبله كتاب موسى‏}‏ ويتلوه ومن قبل التوراة إماماً كتاباً مؤتماً في الدين قدوة فيه انتهى‏.‏ وقيل في أفمن كان‏:‏ المؤمنون بالرسول، وقيل‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم خاصة‏.‏ وقال علي بن أبي طالب، وابن عباس، وقتادة، ومجاهد، والضحاك‏:‏ محمد والمؤمنون جميعاً، والبينة القرآن أو الرسول، والهاء للمبالغة والشاهد‏.‏ قال ابن عباس، والنخعي، ومجاهد، والضحاك، وأبو صالح، وعكرمة‏:‏ هو جبريل‏.‏ وقال الحسن بن علي‏:‏ هو الرسول‏.‏ وقال أيضاً مجاهد‏:‏ هو ملك وكله الله بحفظ القرآن‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ويحتمل أن يريد بهذه الألفاظ جبريل، وقيل‏:‏ هو علي بن أبي طالب‏.‏ وروى المنهال عن عبادة بن عبد الله، قال علي كرم الله وجهه‏:‏ ما في قريش أحد إلا وقد نزلت فيه آية قيل‏:‏ فما نزل فيك‏؟‏ قال‏:‏ ويتلوه شاهد منه، وبه قال محمد بن علي وزيد بن علي‏.‏ وقيل‏:‏ هو الإنجيل قاله‏:‏ الفراء‏.‏ وقيل‏:‏ هو القرآن، وقيل‏:‏ هو إعجاز القرآن قاله الحسين بن الفضل، وقيل‏:‏ صورة الرسول صلى الله عليه وسلم ووجهه ومخايله، لأنّ كل عاقل نظر إليه علم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ هو أبو بكر رضي الله تعالى عنه، والضمير في منه يعود إلى الدين أو إلى الرسول، أو إلى القرآن‏.‏ ويتلوه بمعنى يتبعه، أو يقرؤه، والضمير المرفوع في يتلوه والمنصوب والمجرور في منه يترتب على ما يناسبه كل قوم من هذه‏.‏

وقرأ محمد بن السائب الكلبي وغيره‏:‏ كتاب موسى بالنصب عطفاً على مفعول يتلوه، أو بإضمار فعل‏.‏

وإذا لم يعن بالشاهد الإنجيل فإنما خص التوراة بالذكر، لأنّ الملتين مجتمعتان على أنها من عند الله، والإنجيل يخالف فيه اليهود، فكان الاستشهاد بما تقوم به الحجة على الفريقين أولى‏.‏ وهذا يجري مع قول الجن‏:‏ ‏{‏إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى‏}‏ ومع قول النجاشي‏:‏ إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة‏.‏ وانتصب إماماً على الحال، والذي يظهر في تفسير هذه الآية أنه تعالى لما ذكر الكفار وأنهم ليس لهم إلا النار، أعقب بضدهم وهم المؤمنون، وهم الذين على بينة من ربهم، والشاهد القرآن، ومنه عائد على ربه‏.‏ ويدل على أنّ الشاهد القرآن ذكر قوله‏:‏ ومن قبله، أي‏:‏ ومن قبل القرآن كتاب موسى، فمعناه‏:‏ أنه تظافر على هدايته شيئان‏:‏ كونه على أمر واضح من برهان العقل، وكونه يوافق ذلك البرهان هذين الكتابين الإلهيين القرآن والتوراة، فاجتمع له العقل والنقل‏.‏ والإشارة بأولئك إلى من كان على بينة راعى معنى مع، فجمع والضمير في به يعود إلى التوراة، أو إلى القرآن، أو إلى الرسول، ثلاثة أقوال‏.‏ والأحزاب جميع الملل قاله‏:‏ ابن جبير، أو اليهود، والنصارى، قاله قتادة‏.‏ أو قريش قاله‏:‏ السدي، أو بنو أمية وبنو المغيرة بن عبد الله المخزومي، وآل أبي طلحة بن عبيد الله، قاله مقاتل‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ يعني أهل مكة ومن ضامّهم من المتحزبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى‏.‏ فالنار موعده أي‏:‏ مكان وعده الذي يصيرون إليه‏.‏ وقال حسان‏:‏

أوردتمونا حياض الموت ضاحية *** فالنار موعدها والموت لاقيها

والضمير في منه عائد على القرآن، وقيل‏:‏ على الخبر، بأن الكفار موعدهم النار‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ في مرية بكسر الميم، وهي لغة الحجاز‏.‏ وقرأ السلمي، وأبو رجاء، وأبو الخطاب السدوسي، والحسن‏:‏ بضمها وهي لغة أسد وتميم والناس أهل مكة قاله‏:‏ ابن عباس، أو جميع الكفار من شاك وجاهل ومعاند قاله‏:‏ صاحب العيتان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 22‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ‏(‏18‏)‏ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏19‏)‏ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ ‏(‏20‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏21‏)‏ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

لما سبق قولهم‏:‏ أم يقولون افتراه، ذكر أنه لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً، وهم المفترون الذين نسبوا إلى الله الولد، واتخذوا معه آلهة، وحرموا وحللوا من غير شرع الله، وعرضهم على الله بمعنى التشهير لخزيهم والإشارة بكذبهم، وإلا فالطائع والعاصي يعرضون على الله ‏{‏وعرضوا على ربك صفاً‏}‏ والاشهاد‏:‏ جمع شاهد، كصاحب وأصحاب، أو جمع شهيد كشريف وأشراف، والأشهاد الملائكة الذين يحفظون عليهم أعمالهم في الدنيا، أو الأنبياء، أو هما المؤمنون، أو ما يشهد عليهم من أعضائهم أقوال‏.‏ وفي قوله‏:‏ هؤلاء إشارة إلى تحقيرهم وإصغارهم بسوء مرتكبهم‏.‏ وفي قوله‏:‏ على ربهم أي‏:‏ على من يحسن إليهم ويملك نواصيهم، وكانوا جديرين أن لا يكذبوا عليه، وهذا كما تقول إذا رأيت مجرماً‏:‏ هذا الذي فعل كذا وكذا‏.‏ وتقدم تفسير الجملة بعد هذا‏.‏ وهم تأكيد لقوله‏:‏ وهم، وقوله‏:‏ معجزين، أي كانوا لا يعجزون الله في الدنيا أن يعاقبهم لو أراد عقابهم، وما كان لهم من ينصرهم ويمنعهم من العقاب، ولكنه أراد انظارهم وتأخير عقابهم إلى هذا اليوم‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وهو كلام الاشهاد يعني‏:‏ أن كلامهم من قولهم هؤلاء إلى آخر هذه الجملة التي هي وما كان لهم من دون الله من أولياء‏.‏ وقد يظهر أن قوله تعالى‏:‏ ألا لعنة الله على الظالمين من كلام الله تعالى لا على سبيل الحكاية، ويدل لقول الزمخشري قوله‏:‏ ‏{‏فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين‏}‏ الآية فكما أنه من كلام المخلوقين في تلك الآية، فكذلك هنا يضاعف لهم العذاب يشدد ويكثر، وهذا استئناف إخبار عن حالهم في الآخرة، لأنهم جمعوا إلى الكفر بالبعث الكذب على الله، وصدّ عباده عن سبيل الله، وبغى العوج لها، وهي الطريقة المستقيمة‏.‏ ما كانوا يستطيعون السمع إخبار عن حالهم في الدنيا على سبيل المبالغة يعني‏:‏ السمع للقرآن، ولما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ وما كانوا يبصرون أي‏:‏ ينظرون إليه لبغضهم فيه‏.‏ ألا ترى إلى حشو الطفيل بن عمرو أذنيه من الكرسف، وإباية قريش أن يسمعوا ما نقل إليهم من كلام الرسول حتى تردّهم عن ذلك مشيختهم‏؟‏ أو إخبار عن حالهم إذا ضعف لهم العذاب أي‏:‏ أنه تعالى حتم عليهم بذلك، فهم لا يسمعون لذلك سماعاً ينتفعون به، ولا يبصرون لذلك‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير في كانوا عائد على أولياؤهم آلهتهم أي‏:‏ فما كان لهم في الحقيقة من أولياء وإن كانوا يعتقدون أنهم أولياء‏.‏ ويعني أنه من لا يستطيع أن يسمع ولا يبصر فكيف يصلح للولاية‏؟‏ ويكون يضاعف لهم العذاب اعتراضاً، وما على هذه الأقوال نفي‏.‏ وقيل‏:‏ ما مصدرية أي‏:‏ يضاعف لهم العذاب مدة استطاعتهم السمع وأبصارهم، والمعنى‏:‏ أن العذاب وتضعيفه دائم لهم متماد‏.‏

وأجاز الفراء أن تكون ما مصدرية، وحذف حرف الجر منها كما يحذف مع أنْ وأن أختيها، وهذا فيه بعد في اللفظ وفي المعنى‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ أراد أنهم لفرط تصامّهم عن اتباع الحق وكراهتهم له كأنهم لا يستطيعون السمع، ولعل بعض المجبرة يتوثب إذا عثر عليه فيوعوع به على أهل العدل، كأنه لم يسمع الناس يقولون في كل لسان هذا الكلام لا أستطيع أسمعه، وهذا مما يمجه سمعي انتهى‏.‏ يعني‏:‏ أنه يمكن أن يستدل به على أنّ العبد لا قدرة له، لأن الله تعالى قد نفى عنه استطاعة السمع، وإذا انتفت الاستطاعة منه انتفت قدرته‏.‏ والزمخشري على عادته في السفه على أهل السنة وخسرانهم أنفسهم، كونهم اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله تعالى، فخسروا في تجارتهم خسراناً لا خسران أعظم منه‏.‏ وهو على حذف مضاف أي‏:‏ راحة أو سعادة أنفسهم، وإلا فأنفسهم باقية معذبة‏.‏ وبطل عنهم ما افتروه من عبادة الآلهة، وكونهم يعتقدون شفاعتها إذا رأوا أنها لا تشفع ولا تنفع‏.‏ لا جرم مذهب الخليل وسيبويه أنهما ركبا من لا وجرم، وبنيا، والمعنى‏:‏ حق، وما بعده رفع به على الفاعلية‏.‏ وقال الحوفي‏:‏ جرم منفي بلا بمعنى حق، وهو مبني مع لا في موضع رفع بالابتداء، وأنهم في موضع رفع على خبر جرم‏.‏ وقال قوم‏:‏ إنّ جرم مبنية مع لا على الفتح نحو قولك‏:‏ لا رجل، ومعناها لا بد ولا محالة‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ معناها لا ضد ولا منع، فتكون اسم لا وهي مبنية على الفتح كالقول الذي قبله، وتكون جرم هنا من معنى القطع، نقول‏:‏ جرمت أي قطعت‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ لا تركيب بينهما ولا ردّ عليهم‏.‏ ولما تقدّم من كل ما قبلها مما قالوا‏:‏ إن الأصنام تنفعهم‏.‏ وجرم فعل ماض معناه كسب، والفاعل مضمر أي كسب هو، أي‏:‏ فعلهم، وإنّ وما بعدها في موضع نصب على المفعول به، وجرم القوم كاسبهم‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

نصبنا رأسه في جذع نخل *** بما جرمت يداه وما اعتدينا

وقال آخر‏:‏

جريمة ناهض في رأس نيق *** ترى لعظام ما جمعت صليبا

ويقال‏:‏ لا جرم بالكسر، ولا جر بحذف الميم‏.‏ قال النحاس‏:‏ وزعم الكسائي أنّ فيها أربع لغات‏:‏ لا جرم، ولا عن ذا جرم، ولا أن ذا جرم، قال‏:‏ وناس من فزارة يقولون‏:‏ لا جرم‏.‏ وحكى الفراء فيه لغتين أخريين، قال‏:‏ بنو عامر يقولون‏:‏ لا ذا جرم، وناس من العرب يقولون‏:‏ لا جرم بضم الجيم‏.‏ وقال الجبائي في نوادره‏:‏ حكى عن فزارة لا جرّ والله لا أفعل ذاك، قال‏:‏ ويقال لا ذا جرم، ولا ذو جرم، ولا عن ذا جرم، ولا أن ذا جرم، ولا أن جرم، ولا عن جرم، ولا ذا جر، والله بغير ميم لا أفعل ذاك‏.‏ وحكى بعضهم بغير لا جرم‏:‏ أنك أنك فعلت ذاك، وعن أبي عمرو‏:‏ لأجرم أنّ لهم النار على وزن لا كرم، ولا جر حذفوه لكثرة الاستعمال كما قالوا‏:‏ سو ترى يريدون سوف ترى‏.‏ ولما كان خسران النفس أعظم الخسران، حكم عليهم بأنهم هم الزائدون في الخسران على كل خاسر من سواهم من العصاة مآله إلى الراحة، وإلى انقطاع خسرانه بخلاف هؤلاء، فإنّ خسرانهم لا انقطاع له‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 24‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏23‏)‏ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

لما ذكر ما يؤول إليه الكفار من النار، ذكر ما يؤول إليه المؤمنون من الجنة، والفريقان هنا الكافر والمؤمن‏.‏ ولما كان تقدم ذكر الكفار وأعقب بذكر المؤمنين، جاء التمثيلم هنا مبتدأ بالكافر فقال‏:‏ كالأعمى والأصم‏.‏ ويمكن أن يكون من باب تشبيه اثنين باثنين، فقوبل الأعمى بالبصير وهو طباق، وقوبل الأصم بالسميع وهو طباق أيضاً، والعمى والصمم آفتان تمنعان من البصر والسمع، وليستا بضدّين، لأنه لا تعاقب بينهما‏.‏ ويحتمل أن يكون من تشبيه واحد بوصفيه بواحد بوصفيه، فيكون من عطف الصفات كما قال الشاعر‏:‏

إلى الملك القرن وابن الهمام *** وليث الكريهة في المزدحم

ولم يجيء التركيب كالأعمى والبصير والأصم والسميع فيكون مقابلة في لفظ الأعمى وضده، وفي لفظة الأصم وضده، لأنه تعالى لما ذكرانسداد العين أتبعه بانسداد السمع، ولما ذكر انفتاح البصر أتبعه بانفتاح السمع، وذلك هو الأسلوب في المقابلة، والأتم في الإعجاز‏.‏ ويأتي إن شاء الله تعالى نظير هذه المقابلة في قوله في طه‏:‏ ‏{‏أن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى‏}‏ واحتمل أنْ تكون الكاف نفسها هي خبر المبتدأ، فيكون معناها معنى المثل، فكأنه قيل‏:‏ مثل الفريقين مثل الأعمى‏.‏ واحتمل أن يراد بالمثل الصفة، وبالكاف مثل، فيكون على حذف مضاف أي‏:‏ كمثل الأعمى، وهذا التشبيه تشبيه معقول بمحسوس، فأعمى البصيرة أصمها، شبه بأعمى البصر أصم السمع، ذلك في ظلمات الضلالات متردد تائه، وهذا في الطرقات محير لا يهتدي إليها‏.‏ وجاء أفلا تذكرون لينبه على أنه يمكن زوال هذا العمى وهذا الصمم المعقول، فيجب على العاقل أن يتذكر ما هو فيه، ويسعى في هداية نفسه‏.‏ وانتصب مثلاً على التمييز، قال ابن عطية‏:‏ ويجوز أن يكون حالاً انتهى‏.‏ وفيه بعد، والظاهر التمييز وأنه منقول من الفاعل أصله‏:‏ هل يستوي مثلاهما‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 27‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏25‏)‏ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ‏(‏26‏)‏ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

هذه السورة في قصصها شبيهة بسورة الأعراف بدئ فيها بنوح، ثم بهود، ثم بصالح، ثم بلوط، مقدّماً عليه ابراهيم بسبب قوم لوط، ثم بشعيب، ثم بموسى وهارون، صلى الله على نبينا وعليهم أجمعين‏.‏ وذكروا وجوه حكم وفوائد لتكرار هذه القصص في القرآن‏.‏

وقرأ النحويان وابن كثير‏:‏ أني بفتح الهمزة أي‏:‏ بأبي، وباقي السبعة بكسرها على إضمار القول‏.‏ وقال أبو علي في قراءة الفتح‏:‏ خروج من الغيبة إلى المخاطبة، قال ابن عطية‏:‏ وفي هذا نظر، وإنما هي حكاية مخاطبة لقومه وليس هذا حقيقة الخروج من غيبة إلى مخاطبة، ولو كان الكلام أنْ أنذرهم أو نحوه لصح ذلك انتهى‏.‏ وأنْ لا تعبدوا إلا الله ظاهر في أنهم كانوا يعبدون الأوثان كما جاء مصرّحاً في غير هذه السورة، وأن بدل من أي لكم في قراءة من فتح، ويحتمل أن تكون أنْ المفسرة‏.‏ وأما في قراءة من كسر فيحتمل أن تكون المفسرة، والمراعى قبلها‏:‏ إما أرسلنا وإما نذير مبين، ويحتمل أن تكون معمولة لأرسلنا أي‏:‏ بأن لا تعبدوا إلا الله، وإسناد الألم إلى اليوم مجاز لوقوع الألم فينه لا به‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ فإذا وصف به العذاب‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ مجازى مثله، لأن الأليم في الحقيقة هو المعذب، ونظيرهما قولك‏:‏ نهاره صائم انتهى‏.‏ وهذا على أن يكون أليم صفة مبالغة من آلم، وهو من كثر ألمه‏.‏ فإنْ كان أليم بمعنى مؤلم، فنسبته لليوم مجاز، وللعذاب حقيقة‏.‏ لما أنذرهم من عذاب الله وأمرهم بإفراده بالعبادة، وأخبر أنه رسول من عند الله، ذكروا أنه مماثلهم في البشرية، واستبعدوا أن يبعث الله رسولاً من البشر، وكأنهم ذهبوا إلى مذهب البراهمة الذين ينكرون نبوة البشر على الإطلاق، ثم عيروه بأنه لم يتبعه إلا الأراذل أي‏:‏ فنحن لا نساويهم، ثم نفوا أن يكون له عليهم فضل‏.‏ أي‏:‏ أنت مساوينا في البشرية ولا فضل لك علينا، فكيف امتزت بأنك رسول الله‏؟‏ وفي قوله‏:‏ إلا الذين هم أراذلنا، مبالغة في الإخبار، وكأنه مؤذن بتأكيد حصر من اتبعه، وأنهم هم الأراذل لم يشركهم شريف في ذلك‏.‏ وفي الحديث «إنهم كانوا حاكة وحجامين» وقال النحاس‏:‏ هم الفقراء والذين لا حسب لهم، والخسيسو الصناعات‏.‏ وفي حديث هرقل‏:‏ «أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم‏؟‏ فقال‏:‏ بل ضعفاؤهم، فقال‏:‏ هم أتباع الرسل قبل» وإنما كان كذلك لاستيلاء الرئاسة على الأشراف وصعوبة الانفكاك عنها، والأنفة من الانقياد لغيرهم، والفقير خلى عن تلك الموانع فهو سريع إلى الإجابة والانقياد‏.‏ ونراك يحتمل أن تكون بصرية، وأن تكون علمية‏.‏ قالوا‏:‏ وأراذل جمع الجمع، فقيل‏:‏ جمع أرذل ككلب وأكلب وأكالب‏.‏ وقيل‏:‏ جمع أرذال، وقياسه أراذيل‏.‏

والظاهر أنه جمع أرذل التي هي أفعل التفضيل وجاء جمعاً، كما جاء أكابر مجرميها وأحاسنكم أخلاقاً‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ما نراك إلا بشراً مثلنا، تعريض بأنهم أحق منه بالنبوّة، وأن الله لو أراد أن يجعلها في أحد من البشر لجعلها فيهم، فقالوا‏:‏ هب أنك واحد من الملأ وموازيهم في المنزلة، فما جعلك أحق منهم‏؟‏ ألا ترى إلى قولهم‏:‏ وما نرى لكم علينا من فضل، أو أرادوا أنه كان ينبغي أن يكون ملكاً لا بشراً، ولا يظهر ما قاله الزمخشري من الآية‏.‏

وقرأ أبو عمرو، وعيسى الثقفي‏:‏ بادئ الرأي من بدأ يبدأ ومعناه‏:‏ أول الرأي‏.‏ وقرأ باقي السبعة‏:‏ بادي بالياء من بدا يبدو، ومعناه ظاهر الرأي‏.‏ وقيل‏:‏ بادي بالياء معناه بادئ بالهمز، فسهلت الهمزة بإبدالها ياء لكسر ما قبلها‏.‏ وذكروا أنه منصوب على الظرف، والعامل فيه نراك أو اتبعك أو أراذلنا أي‏:‏ وما نراك فيما يظهر لنا من الرأي، أو في أول رأينا، أو وما نراك اتبعك أول رأيهم، أو ظاهر رأيهم‏.‏ واحتمل هذا الوجه معنيين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يريد اتبعك في ظاهر أمرهم، وعسى أن تكون بواطنهم ليست معك‏.‏ والمعنى الثاني‏:‏ أن يريد اتبعوك بأول نظر وبالرأي البادئ دون تعقب، ولو تثبتوا لم يتبعوك، وفي هذا الوجه ذم الرأي غير المروي‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ اتبعوك أول الرأي، أو ظاهر الرأي، وانتصابه على الظرف أصله وقت حدوث أول أمرهم أو وقت حدوث ظاهر رأيهم، فحذف ذلك، وأقيم المضاف إليه مقامه، أرادوا أنّ اتباعهم لك إنما هو شيء عنّ لهم بديهة من غير روية ونظر انتهى‏.‏ وكونه منصوباً على الظرف هو قول أبيّ على في الحجة، وإنما حمله على الظرف وليس بزمان ولا مكان، لأنّ في مقدرة فيه أي‏:‏ في ظاهر الأمر، أو في أول الأمر‏.‏ وعلى هذين التقديرين أعني أنْ يكون العامل فيه نراك، أو اتبعك يقتضي أن لا يجوز ذلك، لأنّ ما بعد إلا لا يكون معمولاً لما قبلها إلا إن كان مستثنى منه نحو‏:‏ قام إلا زيداً القوم، أو مستثنى نحو‏:‏ جاء القوم إلا زيداً، أو تابعاً للمستثنى منه نحو‏:‏ ما جاءني أحد إلا زيد أخبرني عمرو، وبادئ الرأي ليس واحداً من هذه الثلاثة‏.‏ وأجيب بأنه ظرف، أو كالظرف مثل جهد رأي أنك ذاهب، أي أنك ذاهب في جهد رأي، والظروف يتسع فيها‏.‏ وإذا كان العامل أراذلنا فمعناه الذين هم أراذلنا بأدل نظر فيهم، وببادئ الرأي يعلم ذلك منهم‏.‏ وقيل‏:‏ بادي الرأي نعت لقوله‏:‏ بشراً‏.‏ وقيل‏:‏ انتصب حالاً من ضمير نوح في اتبعك، أي‏:‏ وأنت مكشوف الرأي لا حصافة لك‏.‏ وقيل‏:‏ انتصب على النداء لنوح أي‏:‏ يا بادي الرأي، أي ما في نفسك من الرأي ظاهر لكل أحد، قالوا‏:‏ ذلك تعجيزاً له‏.‏

وقيل‏:‏ انتصب على المصدر، وجاء الظرف والمصدر على فاعل، وليس بالقياس‏.‏ فالرأي هنا إما من رؤية العين، وإما من الفكر‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وإنما استرذلوا المؤمنين لفقرهم وتأخرهم في الأسباب الدنيوية، لأنهم كانوا جهالاً ما كانوا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا، فكان الأشرف عندهم من له جاه ومال انتهى‏.‏ وظاهر الخطاب في لكم شامل لنوح ومن اتبعه، والمعنى‏:‏ ليس لكم علينا زيادة في مال، ولا نسب، ولا دين‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ في الخلق والخلق، وقيل‏:‏ بكثرة الملك والملك، وقيل‏:‏ بمتابعتكم نوحاً ومخالفتكم لنا، وقيل‏:‏ من شرف يؤهلكم للنبوّة، وقال الكلبي‏:‏ نظنكم نتيقنكم، وقال مقاتل‏:‏ نحسبكم أي في دعوى نوح وتصديقكم، وقال صاحب العتيان‏:‏ بل نظنكم كاذبين توسلاً إلى الرئاسة والشهرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

لما حكى شبههم في إنكار نبوّة نوح عليه السلام وهي قولهم‏:‏ ‏{‏ما نراك إلا بشراً مثلنا‏}‏ ذكر أنّ المساواة في البشرية لا تمنع من حصول المفارقة في صفة النبوّة والرسالة، ثم ذكر الطريق الدال على إمكانه على جهة التعليق والإمكان، وهو متيقن أنه على بينة من معرفة الله وتوحيده، وما يجب له وما يمتنع، ولكنه أبرزه على سبيل العرض لهم والاستدراج للإقرار بالحق، وقيام الحجة على الخصم، ولو قال‏:‏ على اني على حق من ربي لقالوا له كذبت، كقوله‏:‏ ‏{‏أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله‏}‏ الآية فقال فيها‏:‏ وإن يك كاذباً فعليه كذبه‏.‏ والبينة البرهان، والشاهد بصحة دعواه ابن عباس الرحمة والنبوّة مقاتل الهداية غيرهما التوفيق والنبوّة والحكمة‏.‏ والظاهر أن البينة غير الرحمة، فيجوز أن يراد بالبينة المعجزة، وبالرحمة النبوّة‏.‏ ويجوز أن تكون البينة هي الرحمة، ومن عنده تأكيد وفائدته رفع الاشتراك ولو بالاستعارة، فعميت عليكم‏.‏ الظاهر أنّ الضمير عائد على البينة، وبذلك يحصل الذم لهم من أنه أتى بالمعجزة الجلية الواضحة، وأنها على وضوحها واستنارتها خفيت عليهم، وذلك بأنه تعالى سلبهم علمها ومنعهم معرفتها‏.‏ فإن كانت الرحمة هي البينة فعود الضمير مفرداً ظاهر، وإن كانت غيرها كما اخترناه‏.‏ فقوله‏:‏ وآتاني رحمة من عنده، اعتراض بين المتعاطفين‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ حقه أن يقال‏:‏ فعميتا‏.‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ الوجه أن يقدر فعميت بعد البينة، وأن يكون حذفه للاقتصار على ذكره، فتلخص أن الضمير يعود إما على البينة، وإما على الرحمة، وإما عليهما باعتبار أنهما واحد‏.‏ ويقول للسحاب العماء لأنه يخفي ما فيه، كما يقال له الغمام لأنه يغمه‏.‏ وقيل‏:‏ هذا من المقلوب، فعميتم أنتم عنها كما تقول العرب‏:‏ أدخلت القلنسوة في رأسي، ومنه قول الشاعر‏:‏

ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه *** قال أبو علي‏:‏ وهذا مما يقلب، هذ ليس فيه إشكال، وفي القرآن‏:‏ ‏{‏فلا تحسبنّ الله مخلف وعده رسله‏}‏ انتهى‏.‏ والقلب عند أصحابنا مطلقاً لا يجوز إلا في الضرورة، وأما قول الشاعر‏:‏ فليس من باب القلب بل من باب الاتساع في الظرف‏.‏ وأما الآية فأخلف يتعدّى إلى مفعولين، ولكان يضيف إلى أيهما شئت فليس من باب القلب، ولو كان فعميت عليكم من باب القلب لكان التعدي بعن دون على‏.‏ ألا ترى أنك تقول‏:‏ عميت عن كذا، ولا تقول عميت على كذا‏؟‏ وقرأ الإخوان وحفص‏:‏ فعميت بضم العين وتشديد الميم مبنياً للمفعول، أي أبهمت عليكم وأخفيت، وباقي السبعة فعميت بفتح العين وتخفيف الميم مبنياً للفاعل‏.‏ وقرأ أبيّ، وعليّ، والسلميّ، والحسن، والأعمش‏:‏ فعماها عليكم‏.‏ وروى الأعمش عن أبي وثاب‏:‏ وعميت بالواو خفيفة‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ فما حقيقته‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ حقيقته أنّ الحجة كما جعلت بصيرة ومبصرة جعلت عمياء، لأنّ الأعمى لا يهتدي، ولا يهدي غيره، فمعنى فعميت عليكم البينة فلم تهدكم، كما لو عمي على القوم دليلهم في المفازة بقوا بغير هاد‏.‏

‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ فما معنى قراءة أبيّ‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ المعنى أنهم صمموا على الإعراض عنها فخلاهم الله وتصميمهم، فجعلت تلك التخلية تعمية منه، والدليل عليه‏:‏ أنلزمكموها وأنتم لها كارهون‏؟‏ يعني‏:‏ أنكرهكم على قبولها ونقسركم على الاهتداء بها وأنتم تكرهونها ولا تختارونها، ولا إكراه في الدين انتهى‏.‏ وتوجيهه قراءة أبيّ هو على طريقة المعتزلة، وتقدّم في سورة الأنعام الكلام على ‏{‏أرأيتم‏}‏ مشبعاً، وذكرنا أن العرب تعديها إلى مفعولين‏:‏ أحدهما منصوب، والثاني أغلب ما يكون جملة استفهامية‏.‏ تقول‏:‏ أرأيتك زيداً ما صنع، وليس استفهاماً حقيقياً عن الجملة‏.‏ وأنّ العرب ضمنت هذه الجملة معنى أخبرني، وقررنا هناك أن قوله‏:‏ ‏{‏أرأيتكم إن أتاكم عذاب من الله‏}‏ أنه من باب الأعمال تنازع على عذاب الله‏.‏ أرأيتكم يطلبه منصوباً، وفعل الشرط يطلبه مرفوعاً، فأعمل الثاني، وهذا البحث يتقرر هنا أيضاً، فمفعول أرأيتكم محذوف والتقدير‏:‏ أرأيتكم البينة من ربي إن كنت عليها أنلزمكموها‏؟‏ فهذه الجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني لقوله‏:‏ أرأيتم، وجواب الشرط محذوف يدل عليه أرأيتم، وجيء بالضميرين متصلين في أنلزمكموها، لتقدّم ضمير الخطاب على ضمير الغيبة، ولو انعكس لانفصل ضمير الخطاب خلافاً لمن أجاز الاتصال‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يكون الثاني منفصلاً كقولك‏:‏ أنلزمكم إياها ونحوه، فسيكفيكهم الله، ويجوز فسيكفيك إياهم، وهذا الذي قاله الزمخشري من جواز انفصال الضمير في نحو أنلزمكموها، هو نحو قول ابن مالك في التسهيل‏.‏ قال‏:‏ وتختار اتصال نحوها ءأعطيتكه‏.‏ وقال ابن أبي الربيع‏:‏ إذا قدمت ما له الرتبة اتصل لا غير، تقول‏:‏ أعطيتكه‏.‏ قال تعالى‏:‏ أنلزمكموها‏؟‏ وفي كتاب سيبويه ما يشهد له، قال سيبويه‏:‏ فإذا كان المفعولان اللذان تعدّى إليهما فعل الفاعل مخاطباً وغائباً، فبدأت بالمخاطب قبل الغائب، فإنّ علامة الغائب العلامة التي لا يقع موقعها إياه وذلك قولك‏:‏ أعطيتكه وقد أعطاكه‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ أنلزمكموها وأنتم لها كارهون، فهذا كهذا، إذا بدأت بالمخاطب قبل الغائب انتهى‏.‏ فهذا نص من سيبويه على ما قاله ابن أبي الربيع خلافاً للزمخشري وابن مالك ومن سبقهما إلى القول بذلك‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وحكى عن أبي عمرو إسكان الميم، ووجهه أنّ الحركة لم تكن إلا خلسة خفيفة، فظنها الراوي سكوناً‏.‏ والإسكان الصريح لحن عند الخليل وسيبويه وحذاق البصريين، لأن الحركة الإعرابية لا يسوغ طرحها إلا في ضرورة الشعر انتهى‏.‏ وأخذه الزمخشري من الزجاج، قال الزجاج‏:‏ أجمع النحويون البصريون على أنه لا يجوز إسكان حركة الإعراب إلا في ضرورة الشعر، فأما ما روي عن أبي عمرو فلم يضبطه عنه القراء، وروى عنه سيبويه أنه كان يخف الحركة ويختلسها، وهذا هو الحق‏.‏

وإنما يجوز الإسكان في الشعر نحو قول امرئ القيس‏:‏

فاليوم أشرب غير مستحقب *** والزمخشري على عادته في تجهيل القراء وهم أجل من أن يلتبس عليهم الاختلاس بالسكون، وقد حكى الكسائي والفراء أنلزمكموها بإسكان الميم الأولى تخفيفاً‏.‏ قال النحاس‏:‏ ويجوز على قول يونس أنلزمكمها، كما تقول‏:‏ أنلزمكم ذلك ويريد إلزام جبر بالقتل ونحوه، وأما إلزام الإيجاب فهو حاصل، وقال النحاس‏:‏ أنوحيها عليكم، وقوله في ذلك خطأ‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وفي قراءة أبيّ بن كعب أنلزمكموها من شطر أنفسنا، ومعناه من تلقاء أنفسنا‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قرأ ذلك من شطر قلوبنا انتهى‏.‏ ومعنى شطر نحو، وهذا على جهة التفسير لا على أنه قرآن لمخالفته سواد المصحف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 34‏]‏

‏{‏وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ‏(‏29‏)‏ وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏30‏)‏ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏31‏)‏ قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏32‏)‏ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏33‏)‏ وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

تلطف نوح عليه السلام بندائه بقوله‏:‏ ويا قوم، استدراجاً لهم في قبول كلامه، كما تلطف إبراهيم عليه السلام بقوله «يا أبت يا أبت» وكما تلطف مؤمن آل فرعون بقوله‏:‏ «يا قوم يا قوم» والضمير في عليه عائد إلى الإنذار‏.‏ وإفراد الله بالعبادة المفهوم من قوله لهم‏:‏ ‏{‏إني لكم نذير مبين ألا تعبدوا إلا الله‏}‏ وقيل‏:‏ على الدين، وقيل‏:‏ على الدعاء إلى التوحيد، وقيل‏:‏ على تبليغ الرسالة‏.‏ وكلها أقوال متقاربة، والمعنى‏:‏ إنكم وهؤلاء الذين اتبعونا سواء في أنّ أدعوكم إلى الله، وإني لا أبتغي عما ألقيه إليكم من شرائع الله مالاً، فلا يتفاوت حالكم وحالهم‏.‏ وأيضاً فلعلهم ظنوا أنه يريد الاسترفاد منهم، فنفاه بقوله‏:‏ لا أسألكم عليه مالاً إنْ أجري إلاّ على الله، فلا تحرموا أنفسكم السعادة الأبدية بتوهم فاسد‏.‏ ثم ذكر أنه قام بهؤلاء وصف يجب العكوف عليهم به والانضواء معهم، وهو الإيمان فلا يمكن طردهم، وكانوا سألوا منه طرد هؤلاء المؤمنين رفعاً لأنفسهم من مساواة أولئك الفقراء‏.‏ ونظير هذا ما اقترحت قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرد أتباعه الذين لم يكونوا من قريش‏.‏

وقرئ‏:‏ بطارد بالتنوين، قال الزمخشري‏:‏ على الأصل يعني‏:‏ أنّ اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال أصله أن يعمل ولا يضاف، وهذا ظاهر كلام سيبويه‏.‏ ويمكن أن يقال‏:‏ إن الأصل الإضافة لا العمل، لأنه قد اعتوره شبهان أحدهما‏:‏ شبه بالمضارع وهو شبهه بغير جنسه‏.‏ والآخر شبه بالأسماء إذا كانت فيها الإضافة، فكان إلحاقه بجنسه أولى من إلحاقه بغير جنسه‏.‏ إنهم ملاقوا ربهم‏:‏ ظاهره التعليل لانتفاء طردهم، أي‏:‏ إنهم يلاقون الله، أي‏:‏ جزاءه، فيوصلهم إلى حقهم عندي إن ظلمتهم بالطرد‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ معناه أنهم يلاقون الله فيعاقب من طردهم، أو يلاقونه فيجازيهم على ما في قلوبهم من إيمان صحيح ثابت كما ظهر لي منهم، وما أعرف غيره منهم، أو على خلاف ذلك مما تعرفونهم به من بناء إيمانهم على بادي الرأي من غير نظر ولا تفكر، وما عليّ أنْ أشق على قلوبهم وأتعرف ذلك منهم حتى أطردهم ونحوه ‏{‏ولا تطرد الذين يدعون‏}‏ الآية أو هم مصدّقون بلقاء ربهم، موقنون به عالمون أنهم ملاقوه لا محالة انتهى‏.‏ ووصفهم بالجهل لكونهم بنوا أمرهم على الجهل بالعواقب، والاغترار بالظواهر‏.‏ أو لأنهم يتسافلون على المؤمنين ويدعونهم أراذل من قوله‏:‏ ألا لا يجهلن أحد علينا‏.‏ أو تجهلون لقاء ربكم، أو تجهلون أنهم خير منكم، أو وصفهم بالجهل في هذا الاقتراح، وهو طرد المؤمنين ونحوه‏:‏ من ينصرني، استفهام معناه لا ناصر لي من عقاب الله إن طردتهم عن الخير الذي قد قبلوه، أو لأجل إيمانهم قاله‏:‏ الفراء، وكانوا يسألونه أنْ يطردهم ليؤمنوا به أنفة منهم أن يكونوا معهم على سواء، ثم وقفهم بقوله‏:‏ أفلا تذكرون، على النظر المؤدّي إلى صحة هذا الاحتجاج‏.‏

وتقدم تفسير الجمل الثلاث في الأنعام‏.‏ وتزدري تفتعل، والدال بدل من التاء قال‏:‏

ترى الرجل النحيف فتزدريه *** وفي أثوابه أسد هصور

وأنشد الفراء‏:‏

يباعده الصديق وتزدريه *** حليلته وينهره الصغير

والعائد على الموصول محذوف أي‏:‏ تزدرونهم، أي‏:‏ تستحقرهم أعينكم‏.‏ ولن يؤتيهم معمول لقوله‏:‏ ولا أقول، وللذين معناه لأجل الذين‏.‏ ولو كانت اللام للتبليغ لكان القياس لن يؤتيكم بكاف الخطاب، أي‏:‏ ليس احتقاركم إياهم ينقص ثوابهم عند الله ولا يبطل أجورهم، الله أعلم بما في أنفسهم، تسليم لله أي‏:‏ لست أحكم عليهم بشيء من هذا، وإنما الحكم بذلك لله تعالى الذي يعلم ما في أنفسهم فيجازيهم عليه‏.‏ وقيل‏:‏ هو رد على قولهم‏:‏ اتبعك أراذلنا، أي لست أحكم عليهم بأنْ لا يكون لهم خير لظنكم بهم، إن بواطنهم ليست كظواهرهم، الله عز وجل أعلم بما في نفوسهم، إني لو فعلت ذلك لمن الظالمين، وهم الذين يضعون الشيء في غير مواضعه، قد جادلتنا الظاهر المبالغة في الخصومة والمناظرة‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ دعوتنا‏.‏ وقيل‏:‏ وعظتنا، وقيل‏:‏ أتيت بأنواع الجدال وفنونه فما صح دعواك‏.‏

وقرأ ابن عباس‏:‏ فأكثرت جدلنا كقوله‏:‏ ‏{‏وكان الإنسان أكثر شيءٍ جدلاً‏}‏ فأتنا بما تعدنا من العذاب المعجل وما بمعنى الذي، والعائد محذوف أي بما تعدناه، أو مصدرية، وإنما كثرت مجادلته لهم لأنه أقام فيهم ما أخبر الله به ألف سنة إلا خمسين عاماً، وهو كل وقت يدعوهم إلى الله وهم يجيبونه بعبادتهم أصنامهم‏.‏ قال‏:‏ إنما يأتيكم به الله، أي ليس ذلك إليّ إنما هو للإله الذي يعاقبكم على عصيانكم إن شاء أي‏:‏ إن اقتضت حكمته أن يعجل عذابكم وأنتم في قبضته لا يمكن أن تفلتوا منه، ولا أن تمتنعوا‏.‏ ولما قالوا‏:‏ قد جادلتنا، وطلبوا تعجيل العذاب، وكان مجادلته لهم إنما هو على سبيل النصح والإنقاذ من عذاب الله قال‏:‏ ولا ينفعكم نصحي‏.‏

وقرأ عيسى بن عمر الثقفي‏:‏ نصحي بفتح النون، وهو مصدر‏.‏ وقراءة الجماعة بضمها، فاحتمل أن يكون مصدراً كالشكر، واحتمل أن يكون اسماً‏.‏ وهذان الشرطان اعتقب الأول منهما قوله‏:‏ ولا ينفعكم نصحي، وهو دليل على جواب الشرط تقديره‏:‏ إنْ أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي، والشرط الثاني‏:‏ اعتقب الشرط الأول وجوابه أيضاً ما دل عليه قوله‏:‏ ولا ينفعكم نصحي، تقديره‏:‏ إن كان الله يريد أن يغويكم فلا ينفعكم نصحي‏.‏ وصار الشرط الثاني شرطاً في الأول، وصار المتقدم متأخراً والمتأخر متقدّماً، وكأن التركيب إن أردت أن أنصح لكم أن كان الله يريد أن يغويكم، فلا ينفعكم نصحي، وهو من حيث المعنى كالشرط إذا كان بالفاء نحو‏:‏ إنْ كان الله يريد أن يغويكم‏.‏

فإن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي‏.‏ ونظيره‏:‏ ‏{‏وامرأة مؤمنة إنْ وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها‏}‏ وقال الزمخشري‏:‏ قوله إن كان الله يريد أن يغويكم جزاؤه ما دل عليه قوله‏:‏ لا ينفعكم نصحي، وهذا الدليل في حكم ما دل عليه، فوصل بشرط كما وصل الجزاء بالشرط في قوله‏:‏ إن أحسنت إليّ أحسنت إليك إن أمكنني‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وليس نصحي لكم بنافع، ولا إرادتي الخير لكم مغنية إذا كان الله تعالى قد أراد بكم الإغواء والإضلال والإهلاك‏.‏ والشرط الثاني اعتراض بين الكلام، وفيه بلاغة من اقتران الإرادتين، وأنّ إرادة البشر غير مغنية، وتعلق هذا الشرط هو بنصحي، وتعلق الآخر هو بلا ينفع انتهى‏.‏ وكذا قال أبو الفرج بن الجوزي قال‏:‏ جواب الأول النصح، وجواب الثاني النفع‏.‏

والظاهر أنّ معنى يغويكم يضلكم من قوله‏:‏ غوى الرجل يغوي وهو الضلال‏.‏ وفيه إسناد الإغواء إلى الله، فهو حجة على المعتزلة إذ يقولون‏:‏ إن الضلال هو من العبد‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ إذا عرف الله من الكافر الإصرار فخلاه وشأنه ولم يلجئه سمى ذلك إغواء وإملاء، كما إنه إذا عرف منه أن يتوب ويرعوي فلطف به سمى إرشاداً وهداية انتهى‏.‏ وهو على طريقة الاعتزال، ونصوا على أنه لا يوصف الله بأنه عارف، فلا ينبغي أن يقال‏:‏ إذا عرف الله كما قال الزمخشري، وللمعتزلي أن يقول‏:‏ لا يتعين أن تكون إن شرطية، بل هي نافية والمعنى‏:‏ ما كان الله يريد أن يغويكم، ففي ذلك دليل على نفي الإضلال عن الله تعالى، ويكون قوله‏:‏ ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح، إخبار منه لهم وتعزية لنفسه عنهم، لما رأى من إصرارهم وتماديهم على الكفر‏.‏ وقيل‏:‏ معنى يغويكم يهلككم، والغوي المرض والهلاك‏.‏ وفي لغة طيء‏:‏ أصبح فلان غاوياً أي مريضاً، والغوي بضم الفصيل وقاله‏:‏ يعقوب في الإصلاح‏.‏ وقيل‏:‏ فقده اللبن حتى يموت جوعاً قاله‏:‏ الفراء، وحكاه الطبري يقال منه‏:‏ غوى يغوي‏.‏ وحكى الزهراوي أنه الذي قطع عنه اللبن حتى كاد يهلك، أو لما يهلك بعد‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ وكون معنى يغويكم يهلككم قول مرغوب عنه، وأنكر مكي أن يكون الغوي بمعنى الهلاك موجوداً في لسان العرب، وهو محجوج بنقل الفراء وغيره‏.‏ وإذا كان معنى يغويكم يهلككم، فلا حجة فيه لا لمعتزلي ولا لسني، بل الحجة من غير هذا، ومعناه‏:‏ أنكم إذا كنتم من التصميم على الكفر فالمنزلة التي لا تنفعكم نصائح الله ومواعظه وسائر ألطافه، كيف ينفعكم نصحي‏؟‏ وفي قوله‏:‏ هو ربكم، تنبيه على المعرفة بالخالق، وأنه الناظر في مصالحكم، إن شاء أن يغويكم، وإن شاء أن يهديكم‏.‏ وفي قوله‏:‏ وإليه ترجعون، وعيد وتخويف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

قيل‏:‏ هذه الآية اعترضت في قصة نوح، والإخبار فيها عن قريش‏.‏ يقولون ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي‏:‏ افترى القرآن، وافترى هذا الحديث عن نوح وقومه، ولو صح ذلك بسند صحيح لوقف عنده، ولكن الظاهر أن الضمير في يقولون عائد على قوم نوح، أي‏:‏ بل أيقولون افترى ما أخبرهم به من دين الله وعقاب من أعرض عنه، فقال عليه السلام قل‏:‏ إن افتريته فعليّ إثم إجرامي، والإجرام مصدر أجرم، ويقال‏:‏ أجر وهو الكثير، وجرم بمعنى‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

طريد عشيرة ورهين ذنب *** بما جرمت يدي وجنى لساني

وقرئ أجرامي بفتح الهمزة جمع جرم، ذكره النحاس، وفسر بآثامي‏.‏ ومعنى مما تجرمون من إجرامكم في إسناد الافتراء إليّ، وقيل‏:‏ مما تجرمون من الكفر والتكذيب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 37‏]‏

‏{‏وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏36‏)‏ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

قرأ الجمهور وأوحي مبنياً للمفعول، أنه بفتح الهمزة‏.‏ وقرأ أبو البرهشيم‏:‏ وأوحي مبنياً للفاعل، إنه بكسر الهمزة على إضمار القول على مذهب البصريين، وعلى إجراء أوحى مجرى قال‏:‏ على مذهب الكوفيين، أيأسه الله من إيمانهم، وأنه صار كالمستحيل عقلاً بأخباره تعالى عنهم‏.‏ ومعنى إلا من قد آمن أي‏:‏ من وجد منه ما كان يتوقع من إيمانه، ونهاه تعالى عن ابتآسه بما كانوا يفعلون، وهو حزنه عليهم في استكانة‏.‏ وابتأس افتعل من البؤس، ويقال‏:‏ ابتأس الرجل إذا بلغه شيء يكرهه، وقال الشاعر‏:‏

وكم من خليل أو حميم رزئته *** فلم نبتئس والرزء فيه جليل

وقال آخر‏:‏

ما يقسم الله أقبل غير مبتئس *** منه واقعد كريماً ناعم البال

وقال آخر‏:‏

فارس الخيل إذا ما ولولت *** ربة الخدر بصوت مبتئس

وقال آخر‏:‏

في مأتم كنعاج ص *** رة يبتئسن بما لقينا

صارة موضع بما كانوا يفعلون من تكذيبك وإيذائك ومعاداتك، فقد حان وقت الانتقام منهم‏.‏ واصنع عطف على فلا تبتئس، بأعيننا بمرأى منا، وكلاءة وحفظ فلا تزيغ صنعته عن الصواب فيها، ولا يحول بين العمل وبينه أحد‏.‏ والجمع هنا كالمفرد في قوله‏:‏ ولتصنع على عيني، وجمعت هنا لتكثير الكلاءة والحفظ وديمومتها‏.‏ وقرأ طلحة بن مصرف‏:‏ باعينا مدغمة‏.‏ ووحينا نوحي إليك ونلهمك كيف تصنع‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ لم يعلم كيف صنعة الفلك، فأوحى الله أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر‏.‏ قيل‏:‏ ويحتمل قوله بأعيننا أي بملائكتنا الذين جعلناهم عيوناً على مواضع حفظك ومعونتك، فيكون اللفظ هنا للجمع حقيقة‏.‏ وقول من قال‏:‏ معنى ووحينا بأمرنا لك أو بعلمنا ضعيف، لأن قوله‏:‏ واصنع الفلك، مغن عن ذلك‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «كان زان سفينة نوح جبريل» والزان القيم بعمل السفينة‏.‏ والذين ظلموا قوم نوح، تقدم إلى نوح أن لا يشفع فيهم فيطلب إمهالهم، وعلل منع مخاطبته بأنه حكم عليهم بالغرق، ونهاه عن سؤال الإيجاب إليه كقوله‏:‏ ‏{‏يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود‏}‏ وقيل الذين ظلموا واعلة زوجته وكنعان ابنه‏.‏